خُلاصة كتاب: حياتي، تأليف: أحمد أمين (2025)

خُلاصة كتاب: حياتي

تأليف: أحمد أمين

تحميل الخُلاصة: [DOC] [PDF]

مُناقشات حول أحمد أمين

أهمّ الأفكار والجوانب الرئيسية التي تناولها أحمد أمين

1. التأمل الذاتي وسرد السيرة

أحمد أمين يتحدث عن صعوبة رؤية النفس بموضوعية بسبب التحيز الذاتي.

الكتاب يمثل محاولة لتوثيق حياته بشكل صادق، لكن مع تجنب التفاصيل التي قد تُزعج القارئ.

الهدف من كتابة سيرته هو تقديم صورة عن حياة جيله وتجربته الشخصية كمرآة للتغيرات الاجتماعية.

2. البيت والأسرة وتأثيرهما

البيت كان مدرسة أولى تعكس البساطة والنظام والترابط الأسري.

الأب شخصية صارمة لكنها مهتمة بتعليم الأبناء، والأم تمثل الجانب العاطفي والداعم.

مكتبة الأب الغنية كانت نافذة للعلم والمعرفة، وغرست فيه حب القراءة والتعلم.

الحزن كان سمة بارزة في الأسرة بسبب فقدان أفرادها وتأثير ذلك على نفسيته.

3. الطفولة والمعاناة الاجتماعية

وصف تفصيلي للظروف القاسية التي عاشتها الأسرة بسبب السخرة والضرائب في الريف.

تجربة الأسرة في الهجرة إلى المدينة والعيش في أحياء فقيرة مليئة بالتناقضات الطبقية.

التأثير السلبي للظروف الاجتماعية على حياة الفقراء وأثرها في تكوين رؤيته النقدية.

4. التعليم التقليدي والحديث

تجربة الكتاتيب التقليدية التي اتسمت بالقسوة الجسدية والبيئة غير الصحية.

الانتقال إلى التعليم الحديث في المدارس المدنية وكيف شكل ذلك فارقًا في تجربته التعليمية.

مقارنة بين الجمود الفكري في الأزهر والتعليم المدني الأكثر حداثة وتنظيمًا.

تأثير مشايخه في الأزهر، وانتقاده للطرق التعليمية التقليدية التي تفتقر للإبداع.

5. الدين والروحانية

التربية الدينية في البيت وتأثيرها العميق على شخصيته.

تجربة الصوفية والبحث عن الروحانية كجانب أساسي من حياته.

صراعه مع الأفكار الدينية التقليدية ومواجهته للأسئلة الفلسفية والدينية.

6. التغيرات الاجتماعية والسياسية

وصف لآثار الاحتلال الإنجليزي على مصر وتدهور أحوال الفلاحين والطبقات الفقيرة.

حادثة دنشواي ودورها في تشكيل وعيه السياسي وتعاطفه مع القضية الوطنية.

التحولات الاجتماعية كالسفور، وسلطة الآباء، ودور المرأة في المجتمع.

7. الحارة كبيئة تعليمية

الحارة الشعبية كانت عالمًا صغيرًا يعكس الطبقات الاجتماعية المختلفة وتفاعلاتها.

تأثير الأصدقاء والجيران في تشكيل شخصيته وفهمه للمجتمع.

وصف حياة الحارة في القاهرة القديمة من الناحية الثقافية والاجتماعية.

8. النقد الاجتماعي

انتقاد التقاليد البالية التي تقيد العقل والإبداع.

موقفه من الجمود الفكري ورفض التجديد سواء في التعليم أو الدين.

تأملات في العدالة الاجتماعية ومعاناة الفقراء والمظلومين.

9. الثقافة والقراءة

القراءة كانت ملاذًا أساسيًا له لفهم العالم والتغلب على تحديات الحياة.

تأثره بكتابات الغزالي ونهج البلاغة، ودورها في تشكيل رؤيته الفكرية.

الانفتاح على الثقافة الغربية واستفادته من العلوم الحديثة والنقد العقلاني.

10. العمل والتعليم

بداية حياته المهنية كمعلم وكيف صقلت هذه التجربة مهاراته.

التحديات التي واجهها كطالب ومعلم بين البيئة الأزهرية والمدنية.

إيمانه بأهمية التعليم كأساس لتطوير الفرد والمجتمع.

11. الفقد والحزن

الحزن كان جزءًا أساسيًا من حياته بسبب فقد أفراد عائلته.

وصف مفصل لتأثير الحزن على رؤيته للحياة والموت.

العلاقة بين الحزن العميق وتكوينه النفسي والشخصي.

12. التجارب الشخصية كمصدر للتعلم

الأزمات الشخصية كانت فرصًا للنمو والتأمل.

رؤية فلسفية للحوادث والقدر وكيفية تأثيرها في مسار حياته.

الموازنة بين التفاؤل بالمستقبل والواقع المؤلم الذي عاشه.

13. التناقضات الطبقية والمادية

تحليل دقيق للطبقات الاجتماعية التي عاش معها في الحارة.

انتقاد المادية الزائدة التي غزت المجتمع وتأثيرها على القيم الروحية.

موقفه من التحولات المادية في بيئته وتأثيرها على العلاقات الأسرية.

14. التحديات الصحية والشخصية

معاناته من ضعف البصر وكيف أثرت على مسيرته التعليمية والمهنية.

الإرادة القوية التي دفعته لتجاوز العقبات الصحية وتحقيق طموحاته.

وصف لمعاناته مع الفقر والمرض، والبحث عن حلول لتحقيق النجاح.

15. العلاقة مع المجتمع والقضايا الوطنية

ارتباطه بالقضايا الوطنية مثل التعليم والاستقلال.

موقفه من التعليم الأزهري التقليدي مقارنةً بالنظم الحديثة.

دعوته إلى الإصلاح الداخلي كخطوة أولى لتحقيق التقدم الوطني.

16. الفجوة بين الأجيال

مقارنة بين تربيته التقليدية وحياة أبنائه الأكثر حداثة ورفاهية.

نقده لتأثير المدنية الحديثة على العلاقات الاجتماعية والروابط العائلية.

تأمله في طبيعة الفارق بين تربية جيله والتغيرات التي طرأت على الجيل الجديد.

17. رؤية فلسفية للحياة

الحوادث الصغيرة والتجارب العابرة كانت مصدرًا للإلهام والعمل الكبير.

نظرته إلى القدر كقوة غامضة ومؤثرة في حياة الإنسان.

تساؤلاته الفلسفية حول المعنى الحقيقي للحياة والسعادة.

18. أثر التقاليد والدين في الحياة اليومية

الدور القوي للدين في صياغة القرارات اليومية والعادات المجتمعية.

تأثير التقاليد البالية على المجتمع المصري في وقته.

نقده لجمود رجال الدين ودورهم في تأخير الإصلاح.

استنتاجات عامة:

الكتاب يقدم صورة شاملة عن الحياة في مصر خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ويعكس الصراعات التي عاشها أحمد أمين بين التقاليد والتجديد، وبين الفقر والطموح، وبين الجمود الفكري والانفتاح على العالم. النص يبرز رحلة شخصية مليئة بالتحديات والتجارب التي ساهمت في تشكيل فكر أحمد أمين ومواقفه الوطنية والدينية والاجتماعية.

أهم الظروف التاريخية والسياسية المعاصرة

أيام أحمد أمين (1886–1954) شهدت مصر والمنطقة العربية العديد من الأحداث التاريخية والسياسية المهمة التي شكلت السياق العام لكتاباته وأفكاره. يمكن تقسيم هذه الأحداث إلى ثلاثة محاور رئيسية:

1. الاحتلال البريطاني لمصر (1882–1952):

أ. السيطرة البريطانية:

بدأت السيطرة البريطانية الفعلية على مصر بعد هزيمة أحمد عرابي في معركة التل الكبير (1882)، واستمرت حتى ثورة 23 يوليو 1952.

بريطانيا سيطرت على مصر بذريعة حماية قناة السويس، لكنها أدارت البلاد بشكل استعماري، مما أثر على الاقتصاد والسياسة والحياة الاجتماعية.

ب. الثورات الوطنية:

ثورة 1919: كانت من أبرز الأحداث التي عاصرها أحمد أمين، بقيادة سعد زغلول وحزب الوفد. مثلت نقطة تحول في الوعي الوطني ضد الاحتلال البريطاني.

الاستقلال الشكلي (1922): إعلان مصر مملكة مستقلة تحت حكم الملك فؤاد، لكنه كان استقلالًا منقوصًا لأن بريطانيا احتفظت بسيطرتها على قناة السويس وشؤون الدفاع.

ج. الحياة الثقافية والفكرية:

الاحتلال البريطاني أثر على التعليم والثقافة. قدم أحمد أمين جهودًا لتحرير الفكر والثقافة من هيمنة الفكر الاستعماري من خلال الدعوة إلى التعليم والإصلاح الفكري.

2. الخلافة الإسلامية والانقلاب في تركيا:

أ. سقوط الخلافة العثمانية:

في 1924، ألغى مصطفى كمال أتاتورك الخلافة الإسلامية، مما أنهى قرونًا من الحكم العثماني الذي كان يعتبر رمز الوحدة الإسلامية.

أحمد أمين تناول هذا الموضوع بقلق وحيرة، حيث رأى أن إلغاء الخلافة أثر بشكل كبير على العالم الإسلامي، رغم انتقاده للضعف الذي وصلت إليه الدولة العثمانية قبل سقوطها.

ب. إصلاحات أتاتورك:

أتاتورك قاد سلسلة من الإصلاحات الجذرية في تركيا:

تحويل تركيا إلى دولة علمانية.

استبدال الشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية.

تغيير الكتابة التركية إلى الحروف اللاتينية.

تحديث المجتمع التركي من خلال إلغاء الحجاب وإقرار السفور.

أحمد أمين تناول هذه الإصلاحات بإعجاب وانتقاد في نفس الوقت. أبدى إعجابه بمحاولات التحديث، لكنه تحفظ على المبالغة في تبني النموذج الغربي بالكامل.

ج. أثر سقوط الخلافة على مصر:

أثار سقوط الخلافة جدلًا واسعًا في مصر:

حركات إسلامية: ظهرت حركات مثل جماعة الإخوان المسلمين في 1928، التي دعت إلى استعادة الخلافة الإسلامية.

نقاشات فكرية: شارك المفكرون مثل أحمد أمين وعلي عبد الرازق في مناقشة العلاقة بين الدين والسياسة بعد سقوط الخلافة.

3. التطورات السياسية والاجتماعية في مصر:

أ. صعود الحركات الوطنية:

حزب الوفد أصبح القوة السياسية الرئيسية، وقاد الدعوات للاستقلال والدستور.

أحمد أمين عايش صعود التيارات السياسية المتنوعة، من الليبرالية إلى الإسلامية، وعبّر عن رؤيته الإصلاحية التي توازن بين الحداثة والتراث.

ب. النهضة الثقافية:

خلال فترة أحمد أمين، شهدت مصر نهضة ثقافية واسعة. تم إنشاء جامعة القاهرة (1908)، التي لعب فيها دورًا بارزًا.

تأثر الفكر المصري بتزايد الانفتاح على الغرب، مع بروز شخصيات مثل طه حسين وسلامة موسى الذين دعوا إلى تحديث الفكر العربي.

ج. قضايا المرأة:

موضوع المرأة كان محوريًا في تلك الفترة:

دعوات إلى السفور والتعليم مثل التي قادها قاسم أمين.

أحمد أمين تناول هذا الموضوع بواقعية، مؤيدًا التعليم وتمكين المرأة، لكنه دعا إلى ذلك ضمن حدود القيم الإسلامية.

د. تأسيس الأحزاب السياسية:

تأسست أحزاب مثل حزب الوفد، حزب الأحرار الدستوريين، وجماعة الإخوان المسلمين، مما زاد من حدة النقاشات حول قضايا مثل الحرية والدين والسياسة.

4. الاستنتاج:

الفترة التي عاش فيها أحمد أمين كانت مليئة بالأحداث التاريخية والسياسية التي أثرت على أفكاره وشخصيته:

الاحتلال البريطاني: عزز شعوره بالمسؤولية الوطنية والدعوة للإصلاح الثقافي.

سقوط الخلافة: دفعه إلى التفكير في العلاقة بين الدين والسياسة، والتوفيق بين الأصالة والحداثة.

الإصلاحات التركية: جعلته ينظر بقلق إلى مسار التحديث السريع الذي قد يؤدي إلى التخلي عن القيم الإسلامية.

النهضة الثقافية: كانت مسرحًا لنشاطه الفكري حيث دعا إلى تحرير العقل وتحديث التعليم والثقافة.

أحمد أمين كان شاهدًا على هذه التحولات الكبرى، وحاول من خلال كتاباته أن يرسم طريقًا وسطًا بين الحفاظ على التراث والتفاعل مع الحداثة.

الأشخاص الذين تعلم منهم أحمد أمين

1. تأثير والده:

الدور التعليمي: والده كان شديد الحرص على التعليم؛ جعله يحفظ القرآن ويدرس المتون العلمية في صغره، ووجهه نحو الأزهر بعد الكتاتيب.

حب الكتب: والده كان مولعًا بالكتب؛ ملأ البيت بها في مختلف العلوم كالنحو والفقه والحديث، وكان ذلك دافعًا كبيرًا لأحمد أمين ليصبح قارئًا نهمًا.

التربية الدينية: الأب حرص على تنشئة أبنائه تنشئة دينية صارمة، مما جعل الدين جزءًا أساسيًا من شخصيته.

الصرامة: والده كان شديد الصرامة، ما أثر على انضباط أحمد أمين وشعوره بالمسؤولية، لكنه في نفس الوقت تسبب في قلة المرح والبهجة في حياته.

2. تأثير أخيه الأكبر:

التعليم والدعم: أخوه الأكبر تحمل نفقات تعليمه ووجهه نحو الدراسة بدلًا من الانخراط في العمل مثل بقية أبناء الطبقات الكادحة.

التضحية: أخوه أظهر نموذجًا للتفاني والتضحية من أجل الأسرة، مما أثر في رؤيته لمسؤولية الفرد تجاه العائلة.

3. تأثير شيوخ الأزهر:

التعليم التقليدي: تلقى التعليم في الأزهر على أيدي شيوخ تقليديين يعتمدون على الحفظ والتلقين، لكنه انتقدهم لافتقارهم إلى الإبداع والابتكار.

التأسيس العلمي: رغم انتقاده، استفاد من تعمقهم في اللغة العربية والعلوم الدينية.

الشيخ محمد عبده: كان أبرز من تأثر بهم، حيث أُعجب بأفكاره الإصلاحية ومنهجه النقدي، وحضر دروسه التي وجدها أكثر عمقًا وفائدة من باقي أساتذته.

الشيخ محمد عبده جعله ينفتح على الفكر التقدمي والنقدي.

4. تأثير أساتذته في مدرسة دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي:

الأسلوب الحديث: التقى بأساتذة يعتمدون على طرق تعليم حديثة، مثل التدريس عبر النقاش والاستنتاج، مما أثر في تنمية فكره النقدي.

عاطف بك بركات: أستاذه في مدرسة القضاء الشرعي كان له تأثير كبير؛ شجعه على التفكير الحر ونقد المجتمع والتعمق في القضايا الفكرية.

مدرسة التنوع: أساتذته في مدرسة دار العلوم والقضاء كانوا خليطًا من مشايخ الأزهر وأساتذة تعلموا في أوروبا:

المشايخ الأزهريون: حافظوا على روح الدين واللغة العربية، لكنهم أحيانًا عانوا من الجمود.

الأساتذة المدنيون: قدموا علومًا حديثة وفتحوا آفاقه على الفكر الغربي.

5. تأثير أستاذه الصوفي في الإسكندرية:

الحرية الفكرية والتصوف: أحد أساتذته في الإسكندرية كان صوفيًا لكنه ذو فكر حر، لم يؤمن بالخرافات، ووجهه نحو نقد المجتمع.

الصداقة والتوجيه: هذا الأستاذ كان بمثابة صديق كبير له؛ حرره من التقاليد الضيقة وفتح عينيه على العالم الأوسع، وكان يعتبره المعلم الثاني بعد والده.

6. تأثير أصدقاء الدراسة:

الرفقة: بعض أصدقائه كانوا سببًا في خروجه عن صرامة الحياة الأزهرية، حيث انغمس معهم لفترة قصيرة في اللعب واللهو، لكنه سرعان ما انتبه وعاد إلى دراسته.

التنافس العلمي: دخل في منافسة مع زميل له في مدرسة القضاء، مما دفعه لتطوير نفسه في العلوم الحديثة.

7. تأثير كبار المستشرقين والأساتذة الغربيين:

الجامعة المصرية: حضوره لبعض المحاضرات التي ألقاها أساتذة مستشرقون مثل “نللينو” و “سانتلانا” أعطاه رؤية عميقة عن البحث العلمي والاستقصاء.

التأثر بالغرب: هذا التعليم المتقدم جعله يقدر التفكير النقدي والاستقصاء العلمي مقارنةً بالطابع التقليدي في الأزهر.

8. تأثير المجتمع والمحيط العام:

الحارة: تعلم من الحارة مبادئ الحياة العملية وتعامل الناس البسطاء.

الحوادث التاريخية: مثل حادثة دنشواي، أثرت في وعيه الوطني والسياسي ودفعت نحو فهم أعمق للعلاقات بين المصريين والمحتل البريطاني.

استنتاج:

كان تأثير الأشخاص الذين تعلم منهم أحمد أمين متنوعًا ومتكاملًا. بدأ بتأسيس صارم من والده وأخيه، مرورًا بالجمود الأزهري الذي قاده للبحث عن البدائل، وصولًا إلى الأساتذة المستنيرين والصوفيين الذين فتحوا له أبواب الفكر الحر. كل هؤلاء ساهموا في تشكيل رؤيته النقدية وقدرته على الموازنة بين التراث والحداثة.

عن الجبرية والظروف القهرية

يظهر في بعض مواضع كلام أحمد أمين في مذكراته ميل لتصورات مادية أو جبرية عند تفسيره للأحداث أو الطبيعة الإنسانية. هذا الميل يبدو أحيانًا في طريقة عرضه للأفكار أو محاولته تبسيط الأمور، لكنه لا يعكس بالضرورة إيمانه المطلق بالجبرية أو المادية. يمكن توضيح ذلك من عدة جوانب كما ورد في كتاباته ومذكراته:

1. ميله للجبرية في تفسير الطبيعة الإنسانية:

أحمد أمين يقول إن الإنسان نتيجة حتمية لما ورثه من آبائه وما اكتسبه من بيئته. يرى أن الوراثة والبيئة هما العاملان الأساسيان في تكوين شخصية الإنسان، مما يعكس ميلًا نحو الجبرية المادية في تفسيره للسلوك البشري.

هذا التصور يتضح في قوله: “أنا لم أصنع نفسي، ولكن صنعها الله عن طريق قوانين الوراثة والبيئة.”

هذا التعبير يظهر رؤية ميكانيكية للطبيعة الإنسانية، حيث يُختزل الفرد إلى نتاج لعوامل خارجية كالميراث والبيئة.

2. تأثير الأحداث العارضة واللاوعي:

ذكر أن الحوادث العابرة والكلمات العادية التي تمر مرور الكرام يمكن أن تكون لها آثار عميقة في اللاوعي، وتؤدي إلى أفعال كبيرة في المستقبل.

هذا التصور يعكس ميلًا لفهم السلوك الإنساني على أنه نتيجة تفاعلات غير واعية بين مؤثرات بيئية وعوامل داخلية.

3. موقفه من الحوادث والقدر:

أحمد أمين كان لديه رؤية فلسفية ترى أن الحوادث التي تمر في حياة الإنسان يمكن أن تؤدي إلى نتائج عظيمة أو كارثية، وأن هذه الحوادث جزء من سلسلة من الأسباب والنتائج التي لا يستطيع الإنسان التحكم فيها بالكامل.

هذه الفكرة تشير إلى نظرة شبه جبريّة للحياة، حيث الأحداث تتوالى بطريقة يصعب التنبؤ بها أو التحكم فيها.

4. أثر التربية والتعليم:

تركيزه على تأثير التربية في تشكيل الفرد يعكس نظرة جبرية أيضًا. فهو يرى أن الطفل يتشكل وفق البيئة التي ينشأ فيها، وأن البيت والمجتمع يزرعان البذور الأولى في حياته، وهو مجرد نتيجة لهذه المؤثرات.

5. لماذا يظهر هذا الميل؟

التأثير الثقافي والفلسفي: أحمد أمين كان قارئًا للفكر الغربي، بما في ذلك الأفكار العلمية والفلسفية التي ركزت على المادية والحتمية.

تأثره بفكر النهضة الإسلامية الإصلاحية (مثل محمد عبده) ربما جعله يميل إلى تفسير الأمور بمنظور عملي يرتكز على الأسباب الظاهرة.

محاولة التوفيق بين العلم والدين: سعى في كثير من الأحيان إلى تفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية بطريقة عقلانية تستند إلى الأسباب والنتائج، ربما لتقريبها من الفكر العلمي الحديث.

تأثير البيئة الشخصية: حياته كانت مليئة بالصراعات والتحديات التي ربما دفعته إلى محاولة تفسير ما يحدث من حوله بطريقة علمية أو مادية لخلق معنى لهذه التجارب.

6. هل كان ماديًا أو جبريًا بالكامل؟

رغم هذا الميل الواضح، لا يمكن وصف أحمد أمين بأنه مادي أو جبري بالكامل:

كان يؤمن بأن الدين والقيم الروحية تلعب دورًا مهمًا في حياة الإنسان.

يظهر في كتاباته تقدير للدين كعامل موجه للأخلاق والضمير، وكان ينظر إلى الإيمان بالله كركيزة أساسية لحياته.

7. استنتاج:

أحمد أمين أظهر ميلًا لتفسير الظواهر الإنسانية والحياتية من منظور مادي أو جبري في كثير من المواضع، لكنه لم يكن ماديًا أو جبريًا بالكامل. كان يحاول الموازنة بين تفسير الظواهر بعقلانية علمية وبين الحفاظ على البعد الروحي والديني. ميله هذا يعكس تأثره بموجة النهضة الفكرية في عصره، حيث كان الجمع بين العقل والدين تحديًا رئيسيًا للمثقفين في تلك الفترة.

عن المرض والنظافة

أحمد أمين تناول تأثير المرض والنظافة والقذارة في مذكراته بوضوح، مما يعكس أهمية هذه الموضوعات في تشكيل شخصيته وتجربته الحياتية. يمكن تلخيص ذلك كما يلي:

1. تأثير المرض على شخصيته:

التجارب الشخصية مع المرض:

عانى أحمد أمين من أمراض متعددة، أبرزها ضعف البصر منذ صغره، ما اضطره لارتداء نظارات سميكة والتعامل مع صعوبة القراءة والكتابة. هذا أثر على خياراته التعليمية والمهنية في بعض الأحيان.

أصيب بحمى التيفوئيد في شبابه، ووصف مرضه بأنه تجربة شديدة القسوة كادت تودي بحياته. لم يكن هناك رعاية طبية متطورة وقتها، مما زاد من معاناته.

الأثر النفسي:

المرض عزز من ميله إلى الحزن والتأمل في الحياة والموت. ذكر أن الحزن كان يهيمن على حياته وأنه كان يميل إلى رؤية العالم من منظور سوداوي، خاصة بعد التجارب المؤلمة المرتبطة بفقدان أفراد من أسرته.

الأمراض التي واجهها عمقت شعوره بالعجز في بعض الأحيان، لكنها دفعته أيضًا للتأمل في فلسفة الحياة والبحث عن المعنى.

الانضباط الشخصي:

المرض جعله أكثر حرصًا على الاهتمام بصحته وسلامته الجسدية والعقلية. ربما ساهم ذلك في انضباطه الشخصي وتفانيه في العمل رغم التحديات.

2. موضوع النظافة والقذارة:

وصف القذارة في الحياة العامة:

علق أحمد أمين أكثر من مرة على قذارة البيئات التي عاش فيها، مثل الأحياء الشعبية والحارات والكتاتيب:

أشار إلى أن شوارع الأحياء كانت مليئة بالأتربة والقاذورات، مما يعكس ضعف الاهتمام بالنظافة العامة.

في الكتاتيب، وصف الزير المستخدم للشرب بأنه قذر، والمياه الموجودة فيه تكاد تكون سوداء، مما يعكس تدهور الظروف الصحية.

وصف قذارة الميضأة في المساجد القديمة، حيث كان الماء يُعاد استخدامه للوضوء بشكل غير صحي.

أثر القذارة على الصحة:

أكد أن هذه البيئات القذرة كانت سببًا في انتشار الأمراض، مثل أمراض العيون والرمد والأمراض المعدية.

أرجع بعض معاناته الشخصية مع المرض إلى البيئة الصحية المتردية.

رؤيته للنظافة:

النظافة بالنسبة له كانت رمزًا للمدنية والتقدم. انبهر بالتقدم الذي جلبه تمديد المياه النظيفة إلى المنازل واختفاء صوت السقائين من الحارات.

رأى في تحسين مستوى النظافة العامة ضرورة للارتقاء بالمجتمع وتقليل معاناة الفقراء.

3. علاقة النظافة بالحداثة والتطور:

وصف كيف أن التقدم المدني أدى إلى تحسين الظروف الصحية، مثل توفير الماء النظيف، واستخدام “وابور البريمس” للطهي بدلاً من الطرق البدائية.

رأى في التحول من الحياة التقليدية إلى الحياة الحديثة فرصة للارتقاء بالصحة العامة والعيش بطريقة أكثر كرامة.

4. التأثير الكلي للمرض والنظافة على شخصيته:

حساسية تجاه التفاصيل الصحية:

المرض عزز لديه حساسية تجاه قضايا النظافة والصحة.

أصبح أكثر إدراكًا لأهمية البيئة الصحية في تشكيل حياة الأفراد والمجتمعات.

فلسفة الحياة والموت:

المرض جعله أكثر تأملًا في قضايا الحياة والموت، وعزز من نظرته الفلسفية التي توازن بين الإيمان بالدين وتأثير القوانين الطبيعية مثل الوراثة والبيئة.

دعوته للإصلاح الاجتماعي:

النظافة والظروف الصحية أصبحت في نظره جزءًا من قضايا الإصلاح الاجتماعي التي يجب معالجتها لتحقيق التقدم.

استنتاج:

المرض والقذارة كان لهما تأثير عميق على شخصية أحمد أمين، حيث شكلا جزءًا من تجربته الحياتية التي دفعته إلى التفكير بعمق في القضايا الصحية والاجتماعية. هذه التجارب لم تقتصر على تأثيرها الشخصي، بل انعكست على رؤيته للتقدم والنهضة، حيث ربط بين تحسين الصحة العامة والنظافة وبين تحقيق المدنية والتطور.

عن المدنية والتَّقدُّم

أحمد أمين يقدم تصورًا مركبًا عن المدنية والتقدم، يجمع بين الانبهار بالجوانب الإيجابية للتقدم الغربي والمدنية الحديثة، وبين نقده لبعض مظاهرها التي قد تتعارض مع القيم الروحية والمجتمعية. إليك ملخصًا لهذا التصور كما ورد في الملف:

1. الانبهار بالمدنية الغربية:

التنظيم والعلم الحديث: أظهر إعجابًا شديدًا بالأسلوب التعليمي الغربي الذي يتميز بالدقة، العمق، والاعتماد على المنهج العلمي. هذا تجلى في تجربته مع المستشرقين والأساتذة الأجانب مثل “نللينو” و “سانتلانا” الذين قدموا له نموذجًا للتعليم القائم على البحث والاستقصاء والمقارنة العلمية.

التطبيق العملي: أشاد بتجارب الأساتذة الأجانب الذين علموه كيفية الجمع بين النظرية والتطبيق العملي في العلوم مثل الطبيعة والكيمياء.

الانفتاح الفكري: انبهر بحرية الفكر لدى المستشرقين والأساتذة الغربيين الذين تعاملوا مع العلم كمنهج قائم على البرهان والتجربة، مقارنةً بالنظرة التقليدية التي تعتمد على النقل والتقديس.

2. مقارنة المدارس الحديثة بالكتاتيب:

البيئة التعليمية: قارن بين بيئة الكتاتيب القاسية وغير الصحية، حيث يغلب التلقين والعقاب البدني، وبين المدارس الحديثة التي تعتمد على أساليب تربوية متطورة:

في الكتاتيب: تغيب النظافة، وتعاني من أدوات تعليم بدائية كالفلقة والعصا.

في المدارس الحديثة: الطلاب يتعلمون بأساليب مشوقة تعتمد على الصور، القصص، والأناشيد، في بيئة نظيفة ومنظمة.

المناهج: انتقد جمود الكتاتيب التي لا تقدم سوى تعليم ديني محدود، مقارنةً بالمدارس التي تقدم مناهج شاملة تشمل العلوم الحديثة واللغات.

التجربة الشخصية: انتقاله من الكتاب إلى مدرسة “أم عباس” كان نقطة تحول؛ حيث رأى جمال المباني والنظام المدرسي الذي يختلف كليًا عن الفوضى والبساطة في الكتاتيب.

3. نقد المدنية الحديثة:

القيم الروحية: رغم إعجابه بالنظام الغربي، عبّر عن قلقه من افتقار المدنية الحديثة إلى البعد الروحي الذي كان حاضرًا بقوة في الحياة التقليدية.

التغيرات الاجتماعية: انتقد المادية الزائدة التي غزت المجتمعات الحديثة وأثرت سلبًا على الترابط الأسري والقيم الروحية.

المقارنة مع الماضي: تأمل كيف أن المدنية الحديثة قدمت راحة مادية لكنها قللت من عمق التجارب الحياتية التي كان يعيشها الناس في الحارة والبيئات التقليدية.

4. التوازن بين التراث والحداثة:

الاحتفاظ بالهوية: رأى أن المدنية الحديثة يمكن أن تكون أداة للتقدم إذا تم تبنيها بحذر دون التفريط في الهوية والقيم الدينية.

النقد العقلاني: دعا إلى الجمع بين المنهج العلمي الغربي والفكر النقدي من جهة، وبين الجوانب الروحية والدينية من جهة أخرى.

استنتاج:

أحمد أمين كان منبهرًا بوضوح بالمدنية الغربية والأسلوب الحديث في التعليم، لكنه لم يفقد وعيه بسلبيات هذا التقدم إذا جاء على حساب القيم الإنسانية. كان يرى في المدارس الحديثة نموذجًا لتجاوز الجمود الفكري في الكتاتيب التقليدية، لكنه دعا إلى توظيف التقدم لتحقيق التوازن بين المادة والروح، وبين الحداثة والتراث.

عن الدراسة في الأزهر والمقارنة بأماكن أخرى

أحمد أمين قدم وصفًا نقديًا للدراسة في الأزهر الشريف خلال فترة دراسته هناك (أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين). حديثه عن العشوائية وغياب المنهجية يعكس تجربته الشخصية في تلك الفترة، وهو ما يمكن فهمه من خلال استعراض الواقع التاريخي للأزهر وقتها، مقارنة بتطوره لاحقًا:

1. تجربة أحمد أمين في الأزهر:

أ. وصفه للدراسة في الأزهر:

غياب المنهجية: أشار أحمد أمين إلى أن الدراسة في الأزهر كانت تعتمد على الحفظ والتلقين دون منهجية واضحة أو خطط دراسية محكمة. الطلاب كانوا يختارون الشيوخ والمواد التي يدرسونها حسب رغباتهم، مما أدى إلى غياب التنسيق أو التسلسل العلمي.

الكتب الدراسية: لاحظ أن الكتب التي يتم تدريسها كانت قديمة، وأسلوبها صعب الفهم، ولم تكن موجهة لتناسب الواقع المعاصر أو احتياجات المجتمع.

الانضباط الذاتي: الدراسة كانت تعتمد على مجهود الطالب الشخصي في المتابعة والتعلم، ولم يكن هناك إشراف أكاديمي منظم.

افتقاد العلوم الحديثة: أشار إلى أن الأزهر لم يكن يهتم بالعلوم الحديثة أو اللغة الأجنبية، مما جعله معزولًا عن التحولات الفكرية والعلمية التي كانت تحدث في العالم.

ب. مقارنة مع التعليم الحديث:

عندما انتقل أحمد أمين إلى مدرسة القضاء الشرعي ومدرسة دار العلوم، وجد فرقًا كبيرًا:

المنهج المحدد: التعليم كان منظّمًا بمنهج دراسي محدد ومخطط زمني واضح.

التعليم التطبيقي: تضمنت الدراسة مواد عملية مثل اللغات الأجنبية والعلوم الحديثة.

الأساليب التعليمية: اعتمدت على النقاش والاستنتاج، وهو ما افتقده في الأزهر.

2. مدى دقة وصف أحمد أمين للدراسة في الأزهر وقتها:

أ. واقع الأزهر في أواخر القرن التاسع عشر:

الدراسة في الأزهر وقتها كانت تعتمد على النظام التقليدي:

المرونة: الطلاب كانوا يختارون الشيوخ الذين يدرسون لديهم.

الكتب القديمة: مثل “متن الأجرومية” في النحو و”جمع الجوامع” في أصول الفقه، التي كانت تحتاج إلى شروح لفهمها.

غياب العلوم الحديثة: الأزهر ركّز على العلوم الشرعية واللغوية دون إدخال العلوم الطبيعية أو الاجتماعية.

ب. النقد من داخل الأزهر:

نقد أحمد أمين يعكس شعورًا عامًا لدى بعض الأزهريين أنفسهم بضرورة الإصلاح.

محمد عبده، أحد أبرز شيوخ الأزهر، كان قد دعا إلى إصلاح التعليم الأزهري وإدخال العلوم الحديثة لتواكب التغيرات.

3. تطور الدراسة في الأزهر فيما بعد:

أ. إصلاحات محمد عبده (1895):

إدخال العلوم الحديثة: تم إدخال مواد مثل الرياضيات والتاريخ والجغرافيا ضمن مناهج الأزهر.

إصلاح الكتب الدراسية: تمت مراجعة الكتب الدراسية لتصبح أكثر وضوحًا وتناسبًا مع العصر.

إعادة تنظيم الدراسة: وُضعت مناهج محددة وأُنشئت لجان للإشراف على التعليم.

ب. تأسيس الجامع الأزهر الحديث (1930):

في عهد الملك فؤاد، تم تحويل الأزهر إلى جامعة حديثة مع كليات متخصصة مثل الشريعة والقانون، واللغة العربية.

توسيع نطاق التعليم: بدأ الأزهر في تدريس العلوم الحديثة واللغات الأجنبية بجانب العلوم الشرعية.

تنظيم المراحل الدراسية: أُدخل نظام الشهادات (الابتدائية، الثانوية، والعالمية) لتوحيد التعليم وتنظيمه.

ج. مزيد من التطورات (القرن العشرين):

توسعت الجامعة لتشمل كليات علمية مثل الطب والهندسة، مع الحفاظ على تخصصات العلوم الشرعية.

أصبح الأزهر منفتحًا على التحديات العالمية مع الاحتفاظ بدوره كمرجعية دينية.

4. تحليل موقف أحمد أمين:

أ. النقد البناء:

نقد أحمد أمين يعكس تجربة شخصية مع نظام تعليمي كان بحاجة إلى الإصلاح.

لم يكن الأزهر وقتها مؤهلاً للتفاعل مع العالم الحديث، لكنه بدأ يتطور بعد الإصلاحات التي أطلقها محمد عبده وغيره.

ب. أثر الإصلاحات:

الإصلاحات التي شهدها الأزهر أثبتت أن الانتقادات مثل تلك التي وجهها أحمد أمين كانت ضرورية لدفع عجلة التغيير.

اليوم، الأزهر يجمع بين العلوم الشرعية والحديثة، لكنه يواجه تحديات جديدة تتعلق بمواءمة التعليم مع احتياجات العصر.

استنتاج:

وصف أحمد أمين للدراسة في الأزهر يعكس واقعًا كان حقيقيًا في أواخر القرن التاسع عشر، حيث كان الأزهر بحاجة إلى إصلاح جذري.

الإصلاحات التي بدأت في عصر محمد عبده واستمرت بعده نجحت في تطوير التعليم الأزهري، حيث أصبح أكثر تنظيمًا ومنهجية.

نقد أحمد أمين يمكن فهمه كجزء من الدعوات الإصلاحية التي ساهمت في دفع الأزهر ليصبح مؤسسة تعليمية أكثر شمولية وتفاعلاً مع التغيرات العالمية.

عن الزي المدرسي بين الأزهر والمدرسة

أحمد أمين كانت لديه تجربة معقدة ومليئة بالمفارقات فيما يتعلق بالملابس كرمز للهوية الاجتماعية والانتماء الثقافي. إليك تلخيصًا لهذا الجانب:

1. الطفولة ولبس البدلة:

عندما كان طفلًا وانتقل إلى المدرسة الابتدائية الحديثة (مثل مدرسة “أم عباس”)، لبس البدلة والطربوش بدلًا من الجلباب التقليدي. هذا التغيير جعله يشعر بالارتقاء في المكانة الاجتماعية والاندماج مع أبناء الطبقة الوسطى والعليا.

ارتداء البدلة كان له تأثير نفسي إيجابي عليه، حيث جعله يشعر بالثقة والاعتزاز بنفسه مقارنةً بملابس أبناء الكتاتيب التقليدية.

2. العودة إلى اللباس الأزهري:

مع دخوله الأزهر، اضطر إلى ارتداء الجبة والعمامة والمركوب، مما جعله يبدو أكبر سنًا من أقرانه.

وصف هذه المرحلة بأنها فرضت عليه وقارًا مبالغًا فيه، وشعر وكأنه “شاخ قبل الأوان”. الملابس قيدت حريته في الحركة واللهو، مما أثر على انطلاقه كطفل وشاب.

3. تأثير الأصدقاء وزملاء الدراسة:

في شبابه بالأزهر، تعرف على زميلين من أبناء العلماء في القاهرة، كانا يرتديان ملابس أنيقة ويحافظان على مظهر عصري. تأثر بهما وبدأ يرتدي ملابس أقرب للحداثة مثل الطربوش والأحذية الأنيقة.

هذه التجربة كانت محاولة منه للتكيف مع الأناقة العصرية والابتعاد عن القيود التي فرضها اللباس الديني، لكنه كان يفعل ذلك سرًا خشية غضب والده، الذي اعتبر التأنق والبهرجة مظهرًا غير مقبول.

4. صراع داخلي بين التقليدي والحديث:

عندما حاول التأنق أكثر من اللازم، تعرض للانتقاد وحتى العقاب من والده الذي ضربه عندما ارتدى حزامًا أنيقًا وشبهه بأبناء الطبقة الثرية (مثل السيوفي).

لبس البدلة والطربوش في المدرسة الحديثة مثل دار العلوم كان يمثل له نوعًا من التحرر من الصبغة التقليدية التي فرضها عليه الأزهر.

5. الملابس كرمز للهوية:

الملابس في تجربته لم تكن مجرد اختيار شخصي بل كانت تعبر عن حالة اجتماعية وثقافية:

اللبس الأزهري كان رمزًا للانتماء الديني والتقاليد.

البدلة والطربوش كانا رمزًا للتقدم والانفتاح على المدنية والحداثة.

هذا الصراع بين الزي التقليدي والحديث يعكس صراعه الأكبر بين الانتماء إلى التراث والانجذاب للحداثة.

استنتاج:

أحمد أمين استخدم الملابس كرمز للتعبير عن انتقالاته بين الهويات المختلفة التي عاشها: من طفل بسيط في الكتاتيب، إلى طالب متحرر في المدارس الحديثة، إلى شيخ أزهري يحمل ثقل التقليد. ورغم أنه قضى معظم حياته باللباس الأزهري، إلا أن تجربة ارتداء البدلة والطربوش كانت نقطة مهمة في شعوره بالانتماء الاجتماعي والتحرر من قيود التقليد، لكنها لم تخلُ من الصراع الداخلي والخارجي مع محيطه.

عن موقفه من الاحتلال البريطاني لمصر

موقف أحمد أمين من الاحتلال البريطاني كان معقدًا ومتوازنًا إلى حد ما، ويمكن وصفه بأنه نقدي ولكنه موضوعي. لم يكن مؤيدًا للاحتلال أو الاستعمار بشكل عام، لكنه تناول وجود الاحتلال البريطاني من زاوية تحليلية، مبرزًا سلبياته مع الاعتراف ببعض تأثيراته الإيجابية على المجتمع المصري.

1. موقفه النقدي من الاحتلال البريطاني:

أ. الرفض المبدئي للاحتلال:

أحمد أمين كان معارضًا للاحتلال البريطاني، واعتبره قيدًا على حرية المصريين وسيادتهم الوطنية.

انتقد سياسات بريطانيا التي أدت إلى استغلال ثروات البلاد، وتعطيل التنمية الحقيقية في مصر.

كان يرفض مبدأ السيطرة الأجنبية ويرى أن وجود الاحتلال يمثل مشكلة أخلاقية وسياسية.

ب. الآثار السلبية للاحتلال:

تحدث عن الأثر السلبي للاحتلال على الاقتصاد المصري، حيث ركز البريطانيون على مشاريع تخدم مصالحهم، مثل قناة السويس.

أشار إلى أن الاحتلال أضعف الإرادة الوطنية وحاول تحويل المصريين إلى أدوات لخدمة المستعمر.

انتقد الاستعمار الثقافي الذي رافق الاحتلال، حيث حاول البريطانيون فرض ثقافتهم على المجتمع المصري.

2. الإقرار ببعض التأثيرات الإيجابية:

أ. التطور المدني:

أحمد أمين لم ينكر أن الاحتلال البريطاني جاء ببعض المظاهر المدنية الحديثة إلى مصر:

تحسين بعض البنى التحتية مثل السكك الحديدية والطرق.

إدخال نظم إدارية وقانونية جديدة.

ب. التعليم والتحديث:

أشار إلى أن البريطانيين ساهموا في تطوير بعض مؤسسات التعليم، مثل إنشاء المدارس الحديثة، وإن كانت هذه التطورات جزئية وموجهة لخدمة الاحتلال نفسه.

رأى أن الاحتكاك بالغرب عمومًا، بما في ذلك بريطانيا، ساعد المصريين على الانفتاح على الأفكار الحديثة.

ج. فهمه للمدنية:

عندما تحدث عن “المدنية”، لم يكن يقصد دعم الاحتلال، بل كان يقصد المظاهر الإيجابية التي صاحبت التحديث الغربي بشكل عام، مثل التنظيم الإداري والتقدم العلمي.

3. هل كان موافقًا على الاحتلال؟

أ. رفض الاستعمار كمبدأ:

أحمد أمين لم يكن مؤيدًا للاحتلال أو الاستعمار كفكرة. بل كان يرى أن مصر يجب أن تتقدم بذاتها وأن تعتمد على إمكانياتها.

ب. فهم واقعي للتغيرات:

أحمد أمين كان واقعيًا في نظرته إلى تأثير الاحتلال، حيث حاول تحليل الظاهرة بعيدًا عن العواطف، مشيرًا إلى أن الاستعمار قد يكون له بعض الآثار الإيجابية، لكنه لا يبرر وجوده.

ج. موقفه من الاستقلال:

كان مؤيدًا لحركات الاستقلال الوطنية مثل ثورة 1919، وأيد حق مصر في التخلص من الاحتلال واستعادة سيادتها.

4. مقارنة مع مواقف أخرى:

موقف أحمد أمين يشبه مواقف بعض المفكرين الإصلاحيين مثل رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده، الذين رأوا أن الاحتكاك بالغرب يمكن أن يكون وسيلة للتقدم، لكنهم رفضوا الاستعمار كوسيلة لتحقيق ذلك.

على عكس بعض المثقفين الذين انبهروا تمامًا بالغرب، كان أحمد أمين حريصًا على التأكيد على ضرورة الاستفادة من التقدم الغربي دون التضحية بالهوية الوطنية والدينية.

5. استنتاج:

أحمد أمين لم يكن مؤيدًا للاحتلال البريطاني، بل كان معارضًا له كمبدأ، لكنه تعامل مع الواقع بشكل واقعي واعترف ببعض التغيرات الإيجابية التي رافقت وجود الاحتلال.

رأى أن هذه التغيرات ليست مبررًا للاحتلال، بل هي دروس يمكن لمصر أن تتعلم منها لتحقيق النهضة الذاتية.

موقفه النقدي المتوازن يعكس رؤيته الإصلاحية التي تجمع بين تقدير التقدم الغربي والتمسك بالهوية الوطنية، دون الانبهار الأعمى أو الرفض المطلق.

بين السفور والحجاب

أحمد أمين كان متأثرًا بحركة النهضة الفكرية والاجتماعية في مصر خلال أوائل القرن العشرين، وكان لديه موقف إيجابي تجاه فكرة السفور كجزء من التقدم الاجتماعي للمرأة، لكنه لم يقصد بالسفور أي دعوة للانحلال الخلقي، بل كان يدعو إلى تحرير المرأة ضمن أطر أخلاقية وقيمية تتماشى مع روح العصر.

1. معنى السفور:

السفور في سياق أحمد أمين والنهضة الفكرية المصرية يعني رفع الحجاب المادي أو الرمزي عن المرأة:

الحجاب المادي: كان يعني تخفيف الحجاب التقليدي الذي يعزل المرأة عن الحياة العامة.

الحجاب الرمزي: يشير إلى تمكين المرأة من الانخراط في التعليم والعمل والمشاركة في الحياة العامة.

السفور لا يعني الانحلال الأخلاقي، بل يقصد به حرية المرأة في أن تعيش حياة متوازنة ومتكاملة، بعيدًا عن القيود الاجتماعية التي كانت تفرض عليها البقاء في الظل.

2. موقف أحمد أمين من السفور:

أحمد أمين تأثر بأفكار قاسم أمين (الذي دافع عن تحرير المرأة في كتابيه “تحرير المرأة” و”المرأة الجديدة”)، وكذلك بالحركة الإصلاحية التي تزعمها محمد عبده والتي ربطت بين تحرير المرأة وتقدم المجتمع.

رأى أن الحجاب التقليدي كان عائقًا أمام تعليم المرأة ومشاركتها في بناء المجتمع.

دعم السفور كخطوة نحو تمكين المرأة، لكنه دعا إلى أن يكون ذلك ضمن القيم الإسلامية والاجتماعية، وليس تقليدًا أعمى للغرب.

3. عمله في مجلة “السفور”:

مجلة “السفور” كانت منصة فكرية انطلقت في بداية القرن العشرين للدعوة إلى تحرير المرأة، وتضم العديد من الكتاب المثقفين الذين دعموا هذه الفكرة.

عمل أحمد أمين في المجلة، حيث نشر مقالات تدافع عن تعليم المرأة ومشاركتها في الحياة العامة، مع التركيز على أن ذلك لا يتعارض مع الدين أو الأخلاق.

4. السفور والانحلال الأخلاقي:

لم يكن السفور الذي دعا إليه أحمد أمين يعني الانحلال أو الابتعاد عن القيم الأخلاقية.

دعا إلى أن تكون المرأة متعلمة ومستقلة فكريًا، لكنها في الوقت ذاته ملتزمة بالأخلاق والقيم التي تحمي كيان الأسرة والمجتمع.

السفور في رؤيته كان مرتبطًا بنهضة المجتمع ككل، وليس مجرد تحرير شكلي للمرأة.

5. السياق الاجتماعي لحركة السفور:

السفور كان جزءًا من حركة اجتماعية أوسع تدعو إلى النهضة والتحديث في المجتمع المصري.

كان هناك جدل كبير في ذلك الوقت بين مؤيدي السفور والمحافظين الذين اعتبروا الحجاب التقليدي جزءًا من الهوية الدينية.

أحمد أمين حاول الوقوف في المنتصف: دعا إلى تحديث وضع المرأة دون الإخلال بالقيم الدينية أو السماح بالانحلال الأخلاقي.

6. مقارنة بين السفور والانحلال:

السفور في فكر أحمد أمين:

رفع القيود عن تعليم المرأة.

تحريرها من عزلتها الاجتماعية.

مشاركتها في العمل العام بما يتفق مع القيم الأخلاقية.

الانحلال الأخلاقي:

يمثل التخلي عن القيم والتقاليد بشكل كامل.

رفض أحمد أمين الانحلال ورأى أنه خطر على المجتمع مثل الجمود.

استنتاج:

السفور عند أحمد أمين كان حركة إصلاحية هدفها تمكين المرأة وتعزيز دورها في المجتمع بما يتوافق مع الأخلاق والقيم. لم يكن دعوة للانحلال، بل رؤية متوازنة لتحرير المرأة من القيود التقليدية التي تعيق تقدمها، مع الحفاظ على دورها المحوري في الأسرة والمجتمع.

عن الانقلاب في تركيا

أحمد أمين تناول الانقلاب الذي حدث في تركيا بقيادة مصطفى كمال أتاتورك (1923) كجزء من رؤيته للتحولات الاجتماعية والسياسية الكبرى التي شهدها العالم الإسلامي في تلك الفترة. كان يتحدث عن هذا التحول من زاوية الإصلاح والتحديث، لكنه رصد المظاهر الاجتماعية التي نتجت عنه بشكل محايد، دون أن يخفي دهشته أو تحفظه على بعضها.

1. ما هو الانقلاب الذي حدث في تركيا؟

الإطاحة بالخلافة العثمانية: قاد مصطفى كمال أتاتورك انقلابًا على الخلافة العثمانية، وأسس الجمهورية التركية.

الإصلاحات الكمالية:

إلغاء الخلافة الإسلامية عام 1924.

إقرار العلمانية كأساس للحكم.

إصلاحات اجتماعية وثقافية شملت تحديث نظام التعليم والقضاء، وإلغاء التقاليد الإسلامية مثل الحجاب، واستبدال اللغة العربية بالحروف اللاتينية.

تحرير المرأة وإلغاء القيود الاجتماعية التي فرضتها الدولة العثمانية.

2. رؤية أحمد أمين للانقلاب التركي:

الإصلاح والتحديث: أحمد أمين رأى في الانقلاب حركة إصلاحية تهدف إلى تحديث الدولة والمجتمع التركي:

التخلص من الجمود والتقاليد التي أعاقت تقدم الخلافة العثمانية.

إقامة نظام جمهوري يعتمد على المؤسسات الحديثة والعلمانية.

تأثير التقدم الغربي: اعتبر أن هذه الخطوة كانت مستوحاة من الغرب، حيث سعى أتاتورك إلى تقليد الأنظمة الأوروبية في الإدارة والتعليم والمجتمع.

3. موقف النساء التركيات ورقصهن في الشارع:

أحمد أمين ذكر في سياق رصده للتحولات الاجتماعية أن النساء التركيات خرجن إلى الشوارع بعد هذه الإصلاحات، وبدأن يشاركن في الحياة العامة.

تحدث عن مشهد النساء التركيات يرقصن في الشوارع، وهو ما كان يعكس بالنسبة له تغيرًا جذريًا في الوضع الاجتماعي للمرأة التركية:

هذا الرقص لم يكن مجرد فعل عشوائي، بل كان رمزًا لتحرر المرأة من القيود التقليدية التي فرضتها الدولة العثمانية.

كان أيضًا تعبيرًا عن القبول للمدنية الغربية التي أقرها أتاتورك في تركيا.

4. موقف أحمد أمين من هذا التحول:

لم يكن أحمد أمين يدعو إلى تقليد تركيا حرفيًا، لكنه كان يرى أن التحديث والإصلاح أمر ضروري في العالم الإسلامي.

موقفه كان متوازنًا:

أيد فكرة تحرير المرأة وتمكينها، لكنه كان متحفظًا تجاه المبالغة في الانسلاخ عن القيم الإسلامية.

لم ينتقد رقص النساء التركيات مباشرة، لكنه أبدى دهشة من هذه التغيرات السريعة والجذرية.

5. السياق الثقافي والاجتماعي:

رقص النساء التركيات في الشوارع كان جزءًا من “الانفجار الثقافي” الذي شهدته تركيا بعد رفع القيود الاجتماعية:

النساء تخلين عن الحجاب التقليدي وشاركن في الأنشطة العامة.

تحول المجتمع التركي من نموذج إسلامي محافظ إلى مجتمع علماني مفتوح.

6. موقفه العام من الإصلاحات التركية:

أحمد أمين كان يرى أن الإصلاحات التركية مثال على التحديث الناجح، لكنه كان يعتقد أن كل مجتمع إسلامي يجب أن يجد طريقه الخاص للإصلاح، بما يتماشى مع قيمه وهويته.

لم يكن يؤيد الانسلاخ الكامل عن الدين أو التقاليد، لكنه أيد التخلص من الجمود والتقليد الأعمى.

استنتاج:

الحديث عن النساء التركيات ورقصهن في الشوارع كان عند أحمد أمين رمزًا لتحولات عميقة في المجتمع التركي بعد الانقلاب. رأى هذه التحولات كجزء من حركة التحديث، لكنه تعامل معها بنظرة نقدية متحفظة، مع التأكيد على أن الإصلاح الحقيقي في العالم الإسلامي لا يجب أن يعني التخلي عن القيم الأخلاقية أو الهوية الدينية.

عن الخلاف السني الشيعي

تصور أحمد أمين عن الخلاف السني الشيعي، كما يمكن استخلاصه من سيرته ومن كتبه مثل فجر الإسلام وضحى الإسلام، يظهر أنه تناول الموضوع من زاوية تاريخية وفكرية أكثر منها مذهبية أو فقهية. ومع ذلك، يبدو أن تصوره كان يتسم بقدر من السطحية مقارنةً بعمق الموضوع، خصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار مكانته كمثقف ومؤلف حاول تفسير الحركات الإسلامية تاريخيًا.

1. تصور أحمد أمين للخلاف السني الشيعي:

أحمد أمين قدم الخلاف السني الشيعي بشكل مبسط للغاية:

اعتبره اختلافًا في التفضيل بين الصحابة، حيث انحاز السنة إلى أبي بكر وعمر، بينما انحاز الشيعة إلى عليّ بن أبي طالب وأهل بيته.

لم يتعمق في الجوانب العقدية أو السياسية التي تفاقمت بمرور الوقت وأثرت بشكل جوهري على التاريخ الإسلامي.

2. لماذا يبدو تصوره سطحيًا؟

إغفال الأبعاد الأعمق للصراع: الصراع السني الشيعي لم يكن مجرد تفضيل بين شخصيات، بل كان له أبعاد سياسية واجتماعية عميقة بدأت منذ خلافة عليّ وظهور المعارضة السياسية في صفوف المسلمين.

لم يتناول أحمد أمين تطور الفكر الشيعي في العقائد مثل الإمامة والعصمة، ولم يدرس بعمق آثار هذا الصراع على التكوين السياسي والثقافي للعالم الإسلامي.

البُعد الثقافي والتاريخي: رغم محاولاته في فجر الإسلام وضحى الإسلام لتتبع أثر الفكر الشيعي في الأدب والثقافة، إلا أن كتاباته تميل إلى التحليل العام دون التعمق في السياق الديني والمذهبي.

3. أسباب السطحية في تناوله:

النظرة الإصلاحية: أحمد أمين كان يميل إلى رؤية الإسلام كمنظومة واحدة تتجاوز الخلافات الطائفية. ربما كان يحاول تقليل حدة الصراع من خلال تقديمه بصورة مبسطة كخلاف حول “التفضيل”.

التأثر بالمناهج التاريخية الغربية: تأثره بالمنهج الغربي في دراسة التاريخ جعله يميل إلى التركيز على الجوانب الاجتماعية والثقافية للصراع، مع إغفال الأبعاد العقائدية.

البيئة السنية التي نشأ فيها: كونه سنيًا نشأ وتعلم في مصر الأزهرية ربما جعله أقل اهتمامًا بتفاصيل الفكر الشيعي أو دوافعه العميقة.

الاتجاه العملي والإصلاحي: كان تركيزه ينصب أكثر على قضايا الإصلاح الديني والاجتماعي في عصره، مما جعله لا يتعمق في الخلافات الطائفية التي رآها تاريخية أكثر منها معاصرة.

4. نقد التبسيطية في رؤيته:

الخلاف السني الشيعي لم يكن مجرد اختلاف حول الأشخاص، بل شمل:

السياسة: تطور الخلاف ليصبح صراعًا على السلطة منذ مقتل عثمان وامتدادًا إلى معركة صفين ثم كربلاء.

العقيدة: الشيعة طوروا عقائد مثل الإمامة والعصمة التي تناقضت مع النظرة السنية للشورى والقيادة.

الثقافة: أثر هذا الخلاف في الأدب، الفقه، والتاريخ الإسلامي، ما جعله جزءًا من الهوية الإسلامية المتنوعة.

أحمد أمين تجاهل هذه الأبعاد في تفسيره، مما جعل رؤيته تبدو مبسطة.

5. استنتاج:

رؤية أحمد أمين للخلاف السني الشيعي كانت أقرب إلى محاولة للتهوين من شأن الصراع من أجل تعزيز الوحدة الإسلامية، لكنها جاءت على حساب فهم أعمق لجذور الخلاف وتطوراته. ورغم مكانته كمثقف ومؤلف، يبدو أنه اختار التركيز على الأثر الثقافي والاجتماعي للصراع بدلاً من الغوص في أبعاده العقائدية والسياسية، مما جعل تناوله يبدو سطحيًا مقارنةً بحجم القضية وتعقيداتها.

عن نظرية التطور الداروينية

أحمد أمين تناول نظرية داروين والداروينية في كتاباته ومحاضراته من منظور نقدي وتحليلي، وليس تبنيًا كاملاً للنظرية. كان يحاول فهم النظرية وتفسيرها في سياق ثقافي وعلمي ينسجم مع بيئته الفكرية والإصلاحية. فيما يلي تلخيص لموقفه كما يظهر من مذكراته ومؤلفاته:

1. محاضرة عن داروين والداروينية:

ذكر أحمد أمين أنه ألقى محاضرة عن نظرية داروين والداروينية، وهو ما يعكس اهتمامه بمحاولة فهم الأفكار الحديثة التي أثرت على الفكر الغربي والعالمي.

المحاضرة كانت جزءًا من نشاطه الثقافي والفكري لنقل الأفكار العلمية والفلسفية إلى الجمهور العربي.

2. موقفه من النظرية:

الإعجاب بالنظرية كفكرة علمية:

أظهر تقديرًا لنظرية داروين كاجتهاد علمي في تفسير نشأة الكائنات الحية وتطورها.

كان يرى أن النظرية تقدم نموذجًا لفكر جديد قائم على الملاحظة والتجربة بعيدًا عن الجمود الفكري.

النقد والرفض لبعض الجوانب:

رفض أحمد أمين تطبيق النظرية بشكل مطلق على البشر من منظور أخلاقي وديني.

اعتبر أن فكرة تطور الإنسان من القردة تتعارض مع التصور الإسلامي عن خلق الإنسان.

تحفظ على بعض الجوانب التي قد تؤدي إلى تفسير مادي بحت للحياة والوجود.

3. التوفيق بين العلم والدين:

سعى أحمد أمين إلى التوفيق بين الفكر العلمي الحديث والتصور الديني:

كان يؤمن بأن العلم لا يجب أن يكون معارضًا للدين، بل يمكن أن يكمل فهم الإنسان للكون.

دعا إلى قراءة نظرية داروين ضمن سياقها العلمي وليس كحقيقة مطلقة.

استعرض النظرية بشكل نقدي دون رفضها بالكامل، لكنه ركز على أن هناك جوانب تتجاوز قدرة العلم وحده على التفسير، خصوصًا في مسائل الخلق والغيب.

4. تأثير بيئته الفكرية:

تأثر أحمد أمين بالحركة الإصلاحية التي قادها محمد عبده، والتي ركزت على التوفيق بين العقل والدين.

قراءته للفكر الغربي جعله ينفتح على نظريات علمية مثل الداروينية، لكنه لم يتبناها دون تمحيص.

5. نقده للداروينية الاجتماعية:

كان شديد الانتقاد لفكرة “الداروينية الاجتماعية”، التي استُخدمت لتبرير التفاوت الطبقي والعرقي.

رأى أن تطبيق فكرة “البقاء للأصلح” في المجتمع يؤدي إلى قسوة وظلم اجتماعي يتعارض مع القيم الإنسانية والدينية.

6. استنتاج:

أحمد أمين تعامل مع نظرية داروين بمنهجية تحليلية، حيث أظهر إعجابه ببعض جوانبها العلمية، لكنه رفض ما يتعارض مع الدين والقيم الأخلاقية.

موقفه كان متوازنًا بين الانفتاح على العلم الحديث والحفاظ على الثوابت الدينية، مع التأكيد على أن النظرية ليست حقيقة مطلقة بل اجتهاد علمي يمكن نقده وتحليله.

عن موقفه من المعتزلة

1. نبذة عن مذهب المعتزلة:

التأسيس: المعتزلة فرقة كلامية ظهرت في أواخر القرن الأول الهجري، وتُنسب إلى واصل بن عطاء (ت: 131 هـ)، الذي انفصل عن حلقة الحسن البصري بسبب خلاف فكري حول حكم مرتكب الكبيرة.

المنهج الأساسي: يتمحور مذهب المعتزلة حول تقديم العقل على النص إذا بدا تعارض بينهما، مع محاولتهم تفسير النصوص الشرعية تفسيرًا عقلانيًا.

أصول المعتزلة الخمسة:

التوحيد: تأكيد وحدة الله ونفي الصفات الزائدة عنه، حيث يرون أن صفات الله هي عين ذاته.

العدل: يؤكدون حرية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله، ويرفضون فكرة الجبرية.

المنزلة بين المنزلتين: رأوا أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمنًا ولا كافرًا، بل في منزلة وسطى.

الوعد والوعيد: التمسك بعدل الله، حيث لا يغفر الله لأحد بدون توبة.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ضرورة محاربة الظلم ونشر العدل بالقوة إذا لزم الأمر.

2. معرفة أحمد أمين بالمعتزلة:

أحمد أمين كان على دراية واسعة بمذهب المعتزلة، كما يظهر من كتبه مثل فجر الإسلام وضحى الإسلام.

قام بتحليل دور المعتزلة الفكري والتاريخي، ودرس تأثيرهم على الفكر الإسلامي، خاصة في العصور العباسية حيث بلغ المذهب ذروته.

ركز على أثرهم في الدفاع عن الإسلام أمام الفلسفات اليونانية والشرقية، ودورهم في إحياء الفكر العقلي في الإسلام.

3. انتصاره لآراء المعتزلة:

ميله للعقلانية: أحمد أمين أعجب بشدة بعقلانية المعتزلة ومنهجهم الفكري الذي جعل العقل مرجعًا رئيسيًا لفهم الدين:

اعتبرهم من دعاة التجديد الفكري في الإسلام، ورأى أنهم حاولوا التوفيق بين الدين والعقل.

أيد أفكارهم في التوحيد والعدل الإلهي، واعتبر أن موقفهم يعكس فهمًا أكثر عقلانية للدين مقارنة بالمذاهب الأخرى.

نقد التقليد: انتصر لهم في مواجهتهم للجمود الفكري الذي رأى أنه هيمن على الفكر الإسلامي بعد انتصار التيارات الأشعرية وانحسار المعتزلة.

الدفاع عن الحرية: أعجب برؤيتهم التي تؤكد مسؤولية الإنسان عن أفعاله، وهو ما يتوافق مع أفكاره حول أهمية الحرية والإرادة الإنسانية.

4. هل كان تصوره عن المعتزلة سطحيًا؟

تصوره العقلاني:

صحيح أن أحمد أمين انتصر للمعتزلة لانحيازهم للعقل، لكن تحليله لم يكن سطحيًا بالكامل. تناول أصولهم الخمسة وناقشها بقدر من التفصيل، كما درس تأثيرهم على الفكر الإسلامي.

رغم ذلك، ركز بشكل أكبر على الجانب العقلاني والتجديدي في فكرهم، وربما أغفل بعض الجوانب الأخرى مثل تعقيداتهم الكلامية وآثار صراعاتهم السياسية.

الإطار التاريخي:

نظر إلى المعتزلة من زاوية تاريخية أكثر من كونها لاهوتية. اهتم بإبراز دورهم في بناء فكر إسلامي متفاعل مع الفلسفة والعلوم، لكنه لم يغص في التفاصيل الدقيقة لآرائهم العقائدية المعقدة.

تجاوزاته:

انتصاره للعقل دفعه أحيانًا إلى التغاضي عن بعض الانتقادات التي وجهها علماء آخرون للمعتزلة، مثل اتهامهم بالمبالغة في تقديس العقل على حساب النصوص الدينية.

5. نقاط الاتفاق بين أحمد أمين والمعتزلة:

التوحيد والتنزيه: وافقهم في فكرة تنزيه الله عن التشبيه والصفات الزائدة.

الحرية والمسؤولية: أيد موقفهم في أن الإنسان حر ومسؤول عن أفعاله.

التجديد الفكري: أشاد بمحاولتهم التجديد وربط الدين بالعقل.

6. نقاط الاختلاف أو الانتقادات المحتملة:

التشدد الكلامي: ربما لم يوافق على بعض تشدد المعتزلة في الجدل الكلامي الذي أضعف تأثيرهم الشعبي.

التصادم مع النصوص: انتصار المعتزلة للعقل على النصوص أحيانًا كان قد يثير تساؤلات لدى أحمد أمين، الذي رغم عقليته الإصلاحية لم يكن بعيدًا عن النظرة التقليدية في بعض الجوانب.

استنتاج:

أحمد أمين كان مناصرًا للعقلانية التي تبناها المعتزلة، ورأى فيهم نموذجًا للتفاعل الإيجابي بين الدين والعقل، لكنه تعامل معهم أساسًا كحركة فكرية تاريخية.

انتصاره لهم لم يكن سطحيًا، لكنه ركز على جانبهم العقلاني والتجديدي دون الغوص العميق في الجدل الكلامي الذي ميزهم.

موقفه يعكس تأثره برؤية النهضة الفكرية والإصلاحية التي حاولت إعادة الاعتبار للعقل في الفكر الإسلامي مع الحفاظ على روح الدين.

موقف أهل السنة والجماعة من المعتزلة

أهل السنة والجماعة يعتبرون المعتزلة فرقة كلامية خالفت منهجهم في العقيدة وأصول الدين. ظهرت المعتزلة في أواخر القرن الأول الهجري، واشتهرت بتقديم العقل على النقل في تفسير النصوص الشرعية. من منظور أهل السنة والجماعة، أخطأت المعتزلة في مسائل عديدة تتعلق بأصول الدين، وأدى ذلك إلى خلافات عميقة بينهما.

الخلافات الرئيسية بين أهل السنة والمعتزلة:

1. في التوحيد وصفات الله:

موقف المعتزلة: ينفون صفات الله التي تُفهم على ظاهرها، ويعتبرونها عين ذاته، خوفًا من التشبيه والتجسيم.

يقولون إن الله “عالم بذاته” و”قادر بذاته”، بمعنى أن العلم والقدرة ليستا صفات زائدة على ذاته.

موقف أهل السنة: يثبتون صفات الله كما وردت في النصوص (كاليد والوجه والسمع والبصر) دون تشبيه أو تعطيل، وفق قاعدة “إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل”.

يؤكدون أن صفات الله تليق بجلاله وليست كصفات المخلوقين.

2. في خلق القرآن:

موقف المعتزلة: يعتقدون أن القرآن مخلوق، وليس كلام الله الأزلي، لأنهم يرون أن إثبات أزلية القرآن يؤدي إلى تعدد القدماء (شرك الصفات).

موقف أهل السنة: يعتقدون أن القرآن كلام الله غير مخلوق، فهو صفة من صفات الله الأزلية.

3. في العدل الإلهي:

موقف المعتزلة: يؤكدون العدل الإلهي من خلال القول بحرية الإنسان المطلقة في أفعاله. الإنسان يخلق أفعاله، والله لا يخلق الشر.

يعتبرون أن الله لا يمكن أن يُحاسب أحدًا على فعل لم يختره بنفسه.

موقف أهل السنة: يؤمنون بأن الله خالق أفعال العباد، لكن الإنسان له اختيار وإرادة ضمن نطاق مشيئة الله.

ينفون الجبر المطلق والحرية المطلقة، ويثبتون التوازن بين قدرة الله ومسؤولية الإنسان.

4. في مرتكب الكبيرة:

موقف المعتزلة: يرون أن مرتكب الكبيرة في “منزلة بين المنزلتين”، أي ليس بمؤمن كامل الإيمان، لكنه ليس كافرًا. إذا مات دون توبة فهو في النار خالدًا.

موقف أهل السنة: يرون أن مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ولا يُكفَّر إلا إذا استحل الذنب. مصيره إلى الله: إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه.

5. في الوعد والوعيد:

موقف المعتزلة: يلتزمون بأن الله لا يغفر للكفار والعصاة، ولا يمكن أن يخلف وعيده أو يعفو عن أحد دون توبة.

موقف أهل السنة: يؤمنون بأن الله قد يعفو عن المذنبين من المؤمنين برحمته، ولا يرون إلزامًا على الله في تنفيذ الوعيد.

6. في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

موقف المعتزلة: يرون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب حتى باستخدام القوة ضد الحكام الجائرين.

موقف أهل السنة: يرون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، لكن باستخدام الحكمة والموعظة الحسنة. لا يرون الخروج على الحاكم إلا إذا أظهر كفرًا بواحًا، مع ضمان عدم حدوث فتنة أكبر.

نظرة أهل السنة للمعتزلة:

النقد العقدي:

أهل السنة يرون أن المعتزلة بالغوا في تقديم العقل على النصوص الشرعية، مما أدى بهم إلى تعطيل الصفات الإلهية وتفسير النصوص تفسيرًا بعيدًا عن مقاصد الشريعة.

يعتبرون أن استخدام المعتزلة العقل لم يكن في موضعه الصحيح، خاصة في القضايا الغيبية التي يجب التسليم فيها بالنصوص.

التاريخ والصراعات:

المعتزلة كانوا مقرَّبين من السلطة العباسية في زمن المأمون والمعتصم والواثق، وأثروا في فرض محنة خلق القرآن على علماء أهل السنة مثل الإمام أحمد بن حنبل.

هذا الصراع جعل موقف أهل السنة أكثر تشددًا تجاه المعتزلة.

أثر المعتزلة في الفكر الإسلامي:

رغم الاختلاف، يعترف بعض علماء أهل السنة بإسهامات المعتزلة في الدفاع عن الإسلام ضد الفلاسفة والملاحدة. ومع ذلك، يرون أن أخطاءهم في العقيدة أضرت بالفكر الإسلامي.

الخلاصة:

موقف أهل السنة والجماعة من المعتزلة يتسم بالرفض الواضح لعقائدهم، خاصة فيما يتعلق بصفات الله، خلق القرآن، والعدل الإلهي. الخلاف بينهما يعكس منهجين مختلفين: منهج أهل السنة القائم على الجمع بين النقل والعقل بتوازن، ومنهج المعتزلة الذي يقدم العقل أحيانًا على النص. ورغم الاختلافات الكبيرة، يبقى للمعتزلة دور في تطور الفكر الإسلامي، حتى وإن كان موقف أهل السنة منهم نقديًا.

عن موقفه اللا أدري من الطوائف الإسلامية

أحمد أمين أشار إلى فكرة صعوبة تحديد الطائفة الإسلامية التي تحمل العقيدة الصحيحة بشكل قاطع، وهو تعبير عن رؤيته الإصلاحية والتاريخية للدين الإسلامي. يمكن فهم كلامه في سياق رؤيته العقلانية وتحليله للفرق الإسلامية، خاصة في ظل انتصاره للمعتزلة وتقديره للمنهج العقلي. لفهم هذا الموقف، يمكن توضيح النقاط التالية:

1. لماذا قد يقول إننا صعب جدًا أن نعرف الطائفة على العقيدة الصحيحة؟

أ. تعدد الفرق الإسلامية وتشعب الخلافات:

أحمد أمين كان على دراية واسعة بالتاريخ الإسلامي، وعرف مدى تعقيد الخلافات بين الفرق الإسلامية منذ وقت مبكر:

الخلاف حول الإمامة (كما بين السنة والشيعة).

الجدل الكلامي حول الصفات الإلهية، القدر، وخلق القرآن (كما بين المعتزلة والأشاعرة).

الاختلافات الفقهية والعبادية بين المدارس الأربعة وحتى خارجها.

هذا التعدد جعله يدرك أن كل طائفة تقدم نفسها على أنها “الفرقة الناجية” بينما تتهم الآخرين بالضلال.

ب. صعوبة الفصل بين الحقائق والنظريات:

أحمد أمين اعتبر أن الكثير من الصراعات المذهبية كانت متأثرة بالسياسة والتاريخ، وليس فقط بالدين.

أشار إلى أن العقيدة الصحيحة ليست دائمًا واضحة؛ لأن الفرق اعتمدت على تأويل النصوص والاجتهادات العقلية التي قد تختلف باختلاف الزمان والمكان.

ج. التأكيد على القيم المشتركة:

رأى أن ما يجمع المسلمين من توحيد لله والاعتراف بالنبوة والآخرة أهم من الخلافات الكلامية والفقهية.

ربما أراد التركيز على الجوهر الروحي للإسلام بدلاً من الغرق في الصراعات الطائفية.

2. كيف يمكن فهم هذا الكلام في سياق انتصاره للمعتزلة؟

أ. عقلانية المعتزلة ودور الاجتهاد:

المعتزلة اشتهروا بتقديم العقل كوسيلة لفهم النصوص الشرعية، ورأوا أن الاجتهاد العقلي ضروري في تفسير الدين.

أحمد أمين تأثر بهذا المنهج، مما جعله يرى أن الحكم على أي طائفة بأنها “الأصح” يتطلب دراسة عقلية متأنية، وهو ما يجعل التوصل إلى إجماع حول طائفة واحدة أمرًا صعبًا.

ب. نقد التقليد والجمود:

انتصار أحمد أمين للمعتزلة يعكس رفضه للجمود والتقليد الأعمى. ربما كان يرى أن أغلب الفرق التي تدعي الصوابية المطلقة تعتمد على التأويل الخاص بها، وليس على حقائق مطلقة.

ج. القيم الإنسانية في الفكر المعتزلي:

المعتزلة كانوا يدافعون عن “العدل الإلهي”، الذي يتضمن حرية الإنسان في اختيار أفعاله ومسؤوليته عنها. هذا يجعل فكرة “الحكم المطلق بالصواب” على طائفة واحدة تتناقض مع رؤيتهم المنفتحة للاجتهاد والتعدد.

د. البحث عن الوحدة الإسلامية:

أحمد أمين ربما كان يرى في النزاع المذهبي أحد أسباب ضعف الأمة الإسلامية. انتصار المعتزلة للعقلانية كان يمكن أن يُستخدم كأداة لتجاوز الخلافات المذهبية، لكنهم أنفسهم تورطوا في صراعات مع الفرق الأخرى.

بالتالي، رأى أن الحل ليس في تصنيف الفرق، بل في تعزيز القيم الأساسية المشتركة التي توحد المسلمين.

3. تفسير موقفه في ضوء الفكر الإصلاحي:

أ. الدعوة إلى التوفيق بين العقل والدين:

أحمد أمين كان ينتمي فكريًا إلى تيار النهضة الإسلامية، الذي دعا إلى إحياء العقل في الدين دون الانفصال عن جوهر الشريعة.

تصوره للصعوبة في تحديد “الفرقة الناجية” ربما يعكس دعوته إلى التخفيف من حدة الصراعات والاهتمام بالجوهر الديني.

ب. نقده للأدلجة الدينية:

ربما أراد أحمد أمين انتقاد النظرة الضيقة التي تجعل كل طائفة تدعي احتكار الحقيقة. مثل هذه المواقف تؤدي إلى التفرقة وليس الوحدة.

4. استنتاج:

رؤية شمولية: موقف أحمد أمين يعكس فهمه للتاريخ الإسلامي كرحلة فكرية طويلة ومتنوعة، حيث أسهمت كل فرقة بفهمها الخاص للدين.

انتصار المعتزلة: في سياق انتصاره للمعتزلة، ربما رأى أنهم الأقرب إلى منهج العقل والاجتهاد، لكنه لم يغفل أنهم أيضًا ليسوا معصومين أو الوحيدين الذين ساهموا في فهم الإسلام.

النقد البناء: رأى أن التركيز على العقل والروح المشتركة بين المسلمين أهم من محاولات تحديد الطائفة “الأصح”.

في النهاية، موقفه لم يكن دعوة للتشكيك أو التبسيط، بل كان محاولة لتجاوز الصراعات المذهبية وتقدير الإسلام كدين يجمع بين العقل والإيمان.

عن موقفه من الصهيونية والقضية الفلسطينية

موقف أحمد أمين من عرض السفر لإنجلترا لحضور مؤتمر متعلق بفلسطين يعكس زاويتين أساسيتين: الأولى هي طبيعة شخصيته التي ربما لم تكن تواكب جميع القضايا السياسية في حينها بنفس العمق الذي اتسمت به كتاباته الفكرية، والثانية هي طبيعة الاهتمام بالقضية الفلسطينية والصهيونية كجزء من الوعي العام الذي كان يتنامى في تلك الفترة. لفهم هذا التناقض الظاهري، يمكن تحليل الموقف من عدة جوانب:

1. لماذا لم يكن أحمد أمين مطلعًا على الموضوع بشكل كافٍ؟

أ. طبيعة اهتماماته:

أحمد أمين كان في الأساس باحثًا ومفكرًا، وتركزت اهتماماته على القضايا الفكرية، الثقافية، والاجتماعية أكثر من السياسة المباشرة.

قضية فلسطين والصهيونية ربما لم تكن محور تركيزه الشخصي قبل ذلك العرض، حيث كانت قضاياه الرئيسية مرتبطة بالإصلاح الديني والاجتماعي.

ب. الوعي بالقضية في ذلك الوقت:

رغم أن المشروع الصهيوني بدأ يظهر بوضوح منذ وعد بلفور (1917)، إلا أن الوعي بخطورة المشروع الصهيوني كان يتفاوت بين المفكرين والمثقفين في العالم العربي.

قد يكون أحمد أمين أشار إلى الصهيونية وخطرها في كتاباته كجزء من الحديث العام، لكنه لم يكن متعمقًا في القضية لدرجة التخصص أو الاستعداد للمؤتمرات.

2. لماذا قرر “القراءة عن الموضوع” فجأة؟

أ. إدراك متأخر بأهمية المؤتمر:

من المحتمل أن عرض السفر أثار انتباهه ودفعه لإعادة النظر في أهمية القضية، ما جعله يعترف بعدم معرفته الكافية ورغبته في القراءة عنها.

ب. الاعتراف بالجهل كصفة إيجابية:

أحمد أمين كان معروفًا بصراحته وصدقه الفكري، وربما أراد أن يكون مستعدًا علميًا وفكريًا قبل الخوض في نقاش أو تمثيل موقف أمام مؤتمر دولي.

3. موقفه من الصهيونية وخطرها:

أ. إشارة إلى الصهيونية في كتاباته:

أحمد أمين تحدث عن الصهيونية في سياق خطرها على الأمة الإسلامية وعلى العرب تحديدًا.

اعتبرها حركة استعمارية ذات طابع سياسي واقتصادي تهدف إلى السيطرة على فلسطين كجزء من مشروع أكبر.

ب. فهمه للصهيونية كجزء من المخاطر الخارجية:

موقفه العام من الصهيونية كان ينظر إليها كمظهر من مظاهر الاستعمار الحديث الذي يجب مواجهته، لكنه ربما لم يكن مكرسًا لتتبع تفاصيلها.

4. كيف نفسر هذا الموقف ضمن سياق زمنه؟

أ. تطور الوعي بالقضية الفلسطينية:

في تلك الفترة (الثلاثينيات والأربعينيات)، كان الوعي بالقضية الفلسطينية يتطور تدريجيًا بين النخب الفكرية والسياسية في العالم العربي.

لم يكن جميع المثقفين العرب على نفس القدر من المعرفة بتفاصيل المشروع الصهيوني وخطورته.

ب. أولوية القضايا المحلية:

ربما كانت قضايا أخرى مثل التعليم، الإصلاح الديني، والنهضة الفكرية تحتل الأولوية لديه، ولم يكن يعتبر نفسه مختصًا بالقضايا السياسية بشكل مباشر.

5. نقد الموقف وأبعاده:

أ. غياب التحضير المسبق:

يمكن انتقاد أحمد أمين لعدم إلمامه الكافي بالقضية الفلسطينية والصهيونية، خاصة أنه كان يُعتبر من أبرز المفكرين في عصره.

عدم اهتمامه المسبق يعكس انفصالًا نسبيًا بين بعض النخب الثقافية والسياسية في العالم العربي في تلك الفترة.

ب. الانفتاح على التعلم:

في المقابل، موقفه يعكس رغبة في التعلم والاستعداد، وهو ما يدل على صدق في التعامل مع القضايا، بدلاً من الادعاء بمعرفة ما يجهله.

6. استنتاج:

موقف أحمد أمين من عرض السفر لحضور المؤتمر حول فلسطين يكشف عن ثغرة في اهتماماته أو معرفته المسبقة بالقضية، لكنه في الوقت ذاته يظهر انفتاحه على التعلم وإدراكه المتأخر لأهمية الموضوع.

رغم أنه أشار إلى خطر الصهيونية في كتاباته، إلا أن اهتمامه بالقضية الفلسطينية ربما لم يكن على رأس أولوياته الفكرية مقارنة بقضايا أخرى مثل الإصلاح الاجتماعي والثقافي.

يُظهر هذا الموقف أهمية تطوير وعي المثقفين بقضايا الأمة الكبرى، حتى لو لم تكن ضمن نطاق اختصاصهم المباشر.

عن علاقته بشخصيات هامة وموقفه من تطبيق الشريعة

1. علاقة أحمد أمين بطه حسين:

أحمد أمين كان على علاقة وثيقة بطه حسين، حيث جمعتهما صداقة فكرية وشراكة في بعض المشاريع الثقافية.

عمل أحمد أمين مع طه حسين في جامعة القاهرة، وكان لهما دور بارز في تطوير الدراسات الأدبية والفكرية.

رغم اختلاف أساليبهما الفكرية أحيانًا، إلا أن أحمد أمين كان يقدّر طه حسين ويعتبره رمزًا من رموز النهضة الفكرية في مصر.

2. علاقة أحمد أمين بعلي عبد الرازق:

علي عبد الرازق، صاحب الكتاب المثير للجدل الإسلام وأصول الحكم، الذي أثار نقاشًا حادًا حول علاقة الإسلام بالحكم والسياسة.

لم يكن هناك إشارات واضحة لعلاقة مباشرة بين أحمد أمين وعلي عبد الرازق، ولكن كلاهما كانا جزءًا من التيار الفكري الإصلاحي الذي ناقش القضايا الدينية والاجتماعية بشكل نقدي.

من المعروف أن أحمد أمين كان يميل إلى الفكر الإصلاحي، لكنه لم يكن على نفس الجرأة السياسية والفكرية التي اتسم بها علي عبد الرازق.

3. علاقة أحمد أمين بمصطفى الهلباوي:

مصطفى الهلباوي كان من الشخصيات القانونية البارزة في مصر، واهتم بالقضايا التشريعية والقانونية.

رغم أن أحمد أمين لم يُعرف بتخصص مباشر في القانون، إلا أن عمله كقاضٍ جعله على علاقة بالبيئة القانونية، وربما كان له تواصل مع شخصيات مثل الهلباوي.

الاهتمام المشترك بينهما قد يكون دار حول التوفيق بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي في سياق مصر الحديثة.

4. أحمد أمين والقضاء:

أ. عمله كقاضٍ:

عمل أحمد أمين كقاضٍ في المحاكم الشرعية، وهي المحاكم التي كانت تختص بالأحوال الشخصية والمواريث وغيرها من القضايا التي تخضع للشريعة الإسلامية.

كان ينظر في قضايا مثل الطلاق، الزواج، الميراث، والنفقات، مما يعني أنه كان يطبق الشريعة الإسلامية في هذه القضايا.

ب. الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي:

خلال فترة عمله كقاضٍ، كان جزءًا من منظومة المحاكم الشرعية التي استندت إلى الفقه الإسلامي.

ومع ذلك، شهد عصره تزايد الاعتماد على القوانين الوضعية في المحاكم المدنية التي كانت تختص بالقضايا الجنائية والتجارية.

أحمد أمين، بوصفه مفكرًا إصلاحيًا، لم يظهر منه اعتراض على القانون الوضعي كفكرة، لكنه كان يدعو إلى عدم تجاهل القيم الإسلامية عند صياغة القوانين.

5. موقفه من الشريعة والقانون:

أ. فكره الإصلاحي:

أحمد أمين كان يدعو إلى تطوير الشريعة الإسلامية لتواكب العصر من خلال الاجتهاد وإعادة تفسير النصوص.

رأى أن الشريعة يمكن أن تظل مرجعية روحية وأخلاقية، لكن القوانين الوضعية ضرورية لتنظيم الحياة المدنية المعقدة.

ب. نقد الجمود الفقهي:

انتقد الجمود في تطبيق الشريعة الإسلامية كما كانت تُمارس في المحاكم الشرعية، ورأى أن هناك حاجة للتحديث بما يتلاءم مع العصر.

ج. التوفيق بين القانون الوضعي والشريعة:

أحمد أمين كان يرى أن القوانين الوضعية ليست بالضرورة مناقضة للإسلام، طالما أنها لا تخالف المبادئ الأساسية للشريعة.

6. استنتاج:

أحمد أمين كان جزءًا من تيار فكري واجتماعي شهد تحولات كبيرة في نظام القضاء المصري، من الشريعة الإسلامية إلى القوانين الوضعية.

علاقته بشخصيات مثل طه حسين وعلي عبد الرازق والهلباوي تشير إلى اهتمامه بالقضايا الفكرية والقانونية، لكنه لم يكن قاضيًا بالقانون الوضعي بقدر ما كان مرتبطًا بالمحاكم الشرعية.

فكره الإصلاحي يعكس رؤيته لدور العقل والاجتهاد في تحديث الشريعة والقانون بما يخدم متطلبات المجتمع الحديث.

نص الكتاب

مقدمة الطبعة الأولى

والله هو الموفق، الجيزة ٢٦ مارس (آذار) ١٩٥٠م. أحمد أمين.

لم أتهيب شيئًا من تأليف ما تهيبت من إخراج هذا الكتاب. فإن كل ما أخرجته كان غيري المعروض وأنا العارض أو غيري الموصوف وأنا الواصف، وأما هذا الكتاب فأنا العارض والمعروض والواصف والموصوف، والعين لا ترى نفسها إلا بمرآة. والشيء إذا زاد قربه صعبت رؤيته، والنفس لا ترى شخصها إلا من قول عدو أو صديق. أو بمحاولة للتجرد تم توزيعها على شخصيتين: ناظرة ومنظورة، وحاكمة ومحكومة، وما أشق ذلك وأضناه.

ولكن على المرء أن يبذل جهده في تعرف الحق، وتحري الصدق، ليبرئ نفسه ويريح ضميره، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.

على ذلك وضعت هذا الكتاب، ولم أذكر فيه كل الحق، ولكني لم أذكر فيه أيضًا إلا الحق، فمن الحق ما يرذل قوله وتنبو الأذن عن سماعه، وإذا كنا لا نستسيغ عري كل الجسم فكيف نستسيغ عري كل النفس؟

وترددت — أيضًا — في نشره: ما للناس و«حياتي»؟ لست بالسياسي العظيم، ولا ذي المنصب الخطير، الذي إذا نشر مذكراته، أو ترجم لحياته، أبان عن غوامض لم تعرف، أو مخبآت لم تظهر، فجلى الحق وأكمل التاريخ.

ولكن سرعان ما أجيب بأن عصر الأرستقراطية كاد يزول من غير رجعة، وينقضي من غير عودة. وأزهرت الديمقراطية فحلت محلها، ونشرت سلطانها، وتغلغلت حتى في الفن والأدب.

فلماذا — إذا — لا أؤرخ «حياتي» لعلها تصور جانبًا من جوانب جيلنا، وتصف نمطًا من أنماط حياتنا. ولعلها تفيد اليوم قارئًا، وتعين غدًا مؤرخًا. فقد عنيت أن أصف ما حولي مؤثرًا في نفسي، ونفسي متأثرة بما حولي.

مقدمة الطبعة الثانية

ثم طلب مني أن أعيد طبعته، فأجزت، وأعدت قراءته من جديد، فزدت عليه زيادات في أمور كنت نسيتها. وحصلت في السنتين الأخيرتين حوادث ألحقتها بالكتاب

والله المسئول أن ينفع بالطبعة الثانية، ما نفع بالأولى.

الفصل الأول

ما أنا إلا نتيجة حتمية لكل ما مرّ عليّ وعلى آبائي من أحداث، فالمادة لا تنعدم وكذلك المعاني.

كل ذلك يتراكم ويتجمع، ويختلط ويمتزج ويتفاعل، ثم يكون هذا المزيج وهذا التفاعل أساسًا لكل ما يصدر عن الإنسان من أعمال نبيلة وخسيسة — وكل ذلك أيضًا هو السبب في أن يصير الرجل عظيمًا أو حقيرا، قيمًا أو تافهًا.

بل قد تحدث الحادثة لا يأبه الإنسان بها وتمر أمام عينيه مرّ البرق، أو يسمع الكلمة العابرة ولا يقف عندها طويلا، أو يقرأ جملة في كتاب قراءة خاطفة، فتسكن هذه كلها في نفسه وتختبئ في عالمه اللاشعوري، ثم تتحرك في لحظة من اللحظات لسبب من الأسباب فتكون باعًثا على عمل كبير أو مصدرًا لعمل خطير. وكل إنسان — إلى حد كبير — نتيجة لجميع ما ورثه عن آبائه، وما اكتسبه من بيئته التي أحاطت به.

ولو ورث أي إنسان ما ورثتُ، وعاش في بيئة كالتي عشت لكان إياي أو ما يقرب مني جدًا.

فأنا لم أصنع نفسي ولكن صنعها الله عن طريق ما سّنه من قوانين الوراثة والبيئة.

الفصل الثاني

نظر مرًة إلى رأسي أستاذ جامعي في علم الجغرافيا وحدق فيه ثم قال: هل أنت مصري صميم؟ قلت: فيما أعتقد، ولم هذا السؤال؟ قال: إن رأسك — كما يدل عليه علم السلالات — رأس كردي.

ولكن لعل مما يؤيد كلام الأستاذ أني أشعر بأني غريب في أخلاقي وفي وسطي. وهذه الأسرة كانت كسائر الفلاحين تعيش على الزرع، وحدثني أبي أنهم كانوا يملكون في بلدهم نحو اثني عشر فداًنا. ولكن توالى عليهم ظلم «السخرة» وظلم تحصيل الضرائب فهجروها.

وكانت السخرة أشكالا وألواًنا … ولما أبطل رياض باشا السخرة والضرب بالكرباج في عهد الخديوي توفيق نقم عليه الوجوه والأعيان صنعه، وعدوا ذلك من عيوبه، وقالوا إنه أفسد علينا الفلاحين.

وأما الضرائب فلم تكن منظمة ولا عادلة، فأحياًنا يستطيع أن يهرب الغنى الكبير من دفعها أو يدفع القليل مما يجب عليه منها ويتخلص من الباقي بالرشوة أو التقرب إلى الحكام. ثم يطالب الفقراء المساكين بأكثر مما يحتملون، فإن لم يدفعوا بيعت بهائمهم الهزيلة، وأثاث بيوتهم الحقيرة، ثم ضربوا بالكرباج وعذبوا عذابا أليما — فكان كثير منهم إذا أحس أنه سيقع في مثل هذا المأزق حمل أثاث منزله على بهائمه، وخرج هو وأسرته هائمين على وجوههم في ظلمة الليل، وتركوا أراضيهم، ونزلوا على بعض أقربائهم أو على البدو في الخيام أو حيثما اتفق — فعلت ذلك أسرة علي باشا مبارك وفعلته أسرتي وأسر كثير من الناس.

ففي ليلة من الليالي خرج أبي الصغير وعمي الكبير من سمخراط يحملان معهما القليل من الزاد والأثاث، تاركين الأطيان حلا مباحًا لمن يستولي عليها ويدفع ضرائبها، ونزلا في حي المنشية ( في قسم الخليفة) ولا قريب ولا مأوى. وقسم الخليفة كقسم بولاق أكثر أحياء القاهرة عددًا وأقلها مالا وأسواؤها حالا، يسكنها العمال والصناع والباعة الجوالون وكثير من الطبقة الوسطى وقليل من العليا، ولم تمسهما المدينة الحديثة إلا مسا خفيًفا، فمن شاء أن يدرس حياة سكان القاهرة كما كانوا في العصور الوسطى فليدرسها في هذين الحيين ولاسيما أيام ولادتي.

وهكذا ألاعيب القدر. ظلم صراف البلدة أخرج أبي من سمخراط وأسكنه القاهرة حيث ولدت وتعلمت، ولولا ذلك لنشأت فلاحًا مع الفلاحين أزرع وأقلع، ولكن تتوالد الأحداث توالدًا عجيبًا، فقد ينتج أعظم خير من أعظم شر كما ينتج أعظم شر من أعظم خير، ولا تستبين الأمور حتى يتم هذا التوالد ويظهر على مسرح الكون.

سرعان ما شق الأخ الكبير طريقه في الحياة فكان صانعًا كسوبًا. وكان أكبر الظن يأخذ أخاه الأصغر معه «وهو أبي» ليكون صانعًا بجانبه، يعينه على الكسب أول أمره، ولكن نزعة طيبة غلبت عليه فوجَّهه نحو التعلم واحتمل نفقته، فهو يحفظ القرآن، ويلتحق بالأزهر.

وقد خلف أبي كتبًا كثيرة من هذا القبيل، فقد كان كلما عثر على كتاب مخطوطٍ جيدٍ نقله بخطه، ولا أدري أين وجد الزمن الذي قام فيه بمثل هذا العمل. وأكبر الظن أن الذي أعانه على ذلك أنه لم يتعود لعبًا قط، ولا جلس على مقهى قط، وإنما كانت حياته «جد في جد»، مما أرهقه وأتلف صحته. فلما توفي جمعتُ هذه الكتب في صناديق وأهديتها إلى مكتبة الأزهر باسمه. وكان أكثرها كتب نحو وفقه شافعي.

وكانت الدراسة في الأزهر صعبة مملة طويلة لا يجتازها إلا من منح صبرًا طويلا، واحتمل عبئًا ثقيلا، يطلب هذه الدراسة كثيرون ولا يتمها إلا القليلون فيكونون كالماء يبتدئ نهرًا كبيرًا، ويمر أخيرًا في قناة.

وكل ما أعلمه أن أخوالي سكنوا في حي في وسط القاهرة قريب من باب الخلق، وكانوا يشتغلون في تجارة (العطارة)، وكانوا ناجحين في تجارتهم، وكانوا مع — مهنتهم التجارية — يحفظون القرآن، ويحسنون قراءته، ويلتزمون شعائر الدين.

وكان أحد أخوالي سمحًا كريمًا، كثير الإحسان للفقراء، وقد منح بسطة في الرزق، وسعة في النفس. وأما خالي الآخر، فكان كزًا شحيحًا مضيًقا عليه في رزقه. ولست أدري: أكانت سماحة الأول سببًا في سعة رزقه، أم سعة رزقه سببًا في سماحته؟ كما أني لست أدري أكانت كزازة الثاني سببًا في ضيق رزقه، أم كان ضيق رزقه سببًا في كزازته.

الفصل الثالث

كانت أول مدرسة تعلمت فيها أهم دروسي في الحياة بيتي

وطابع البيت كان البساطة والنظافة. فأثاث أكثر الحجر حصير فرشت عليه سجادة، وإذا كانت حجرة نوم رأيت في ركن من أركانها حشية ولحاًفا ومخدة، تطوى في الصباح وتبسط في المساء. فلم نكن نستخدم الأسرّة

أما أكثر ما في البيت وأثمنه وما يشغل أكبر حيز فيه فالكتب — المنظرة مملوءة دواليب صففت فيها الكتب، وحجرة أبي مملوءة بالكتب وحجرة في الدور الأول ملئت كذلك بالكتب.

وكان أبي مولعًا بالكتب في مختلف العلوم، في الفقه.. والتفسير والحديث واللغة والتاريخ والأدب والنحو والصرف والبلاغة

وكانت هذه المكتبة أكبر متعة لي حين استطعت الاستفادة منها، وقد احتفظت بخيرها نواة لمكتبتي التي أعتز بها وأمضي الساعات فيها كل يوم إلى الآن.

في حجرة في هذا البيت ولدت. وكانت ولادتي في الساعة الخامسة صباحًا من أول أكتوبر سنة ١٨٨٦.

فكنت مدرسًا في مدرسة ابتدائية، ثم في مدرسة ثانوية ثم في عالية، وكنت مدرسًا لبنين وبنات، ومشايخ وأفندية.

الحزن العميق في وفاة أختي أبشع وفاة.

فقد كان لي أخت في الثانية عشرة من عمرها شاء أبي ألا تستمر في البيت من غير عمل فأرسلها إلى معلمة تتعلم عندها الخياطة والتفصيل والتطريز، وقامت يومًا تعد القهوة لضيوف المعلمة فهبت النار فيها واشتعل شعرها وجسمها وحاولت أن تطفئ نفسها أول الأمر فلم تنجح فصرخت، ولكن لم يدركوها إلا وهي شعلة نار، ثم فارقت الحياة بعد ساعات.

وكان ذلك وأنا حَمْلَُ في بطن أمي، فتغذيت دمًا حزيًنا ورضعت بعد ولادتي لبًنا حزيًنا، واستقبلت عند ولادتي استقبالا حزيًنا، فهل كان لذلك أثر فيما غلب عليَّ من الحزن في حياتي فلا أفرح كما يفرح الناس، ولا أبتهج بالحياة كما يبتهجون؟ علم ذلك عند الله والراسخين في العلم.

وكان بيتنا محكومًا بالسلطة الأبوية، فالأب وحده مالك زمام أموره، لا تخرج الأم إلا بإذنه، ولا يغيب الأولاد عن البيت بعد الغروب خوًفا من ضربه، ومالية الأسرة كلها في يده يصرف منها كل يوم ما يشاء كما يشاء، وهو الذي يتحكم حتى فيما نأكل وما لا نأكل، يشعر شعورًا قويًا بواجبه نحو تعليم أولاده، فهو يعلمهم بنفسه ويشرف على تعليمهم في مدارسهم، سواء في ذلك أبناؤه وبناته.

أما إيناسنا وإدخال السرور والبهجة علينا وحديثه اللطيف معنا فلا يلتفت إليه. ولا يرى أنه واجب عليه. يرحمنا ولكنه يخفي رحمته ويظهر قسوته.

أما أحاديثنا وفكاهتنا ولعبنا فمع أمنا.

وقد كان لنا جدة — هي أم أمنا — طيبة القلب شديدة التدين؛ يضيء وجهها نورا.

وأحياًنا كان أخي الكبير يقرأ لنا في ألف ليلة وليلة، فإذا أتى إلى جمل ماجنة متهتكة تلعثم فيها وخجل واضطرب وحاول أن يتخطاها، وأحياًنا يزل لسانه فيقرؤها فيضحك بعض مَنْ حضر، وتخجل أمي وجدتي فيهرب أخي من هذا الموقف المربك، وتقف القراءة.

ولم تكن المدنية قد غزت البيوت، ولاسيما بيوت الطبقة الوسطى أمثالنا، فلا ماء يجري في البيوت وإنما سقَّاء يحمل القربة على ظهره ويقذف ماءها في زير البيت.

وأخيرًا — وأنا فتى — رأيت الحارة تحفر والأنابيب تمد والمواسير والحنفيات تركب في البيوت وإذا الماء في متناولنا وتحت أمرنا، وإذا صوت السقاء يختفي من الحارة ويريحنا الله من الخطوط تخط أو الخرز يوزع.

وطبيعي في مثل هذه الحال ألا يكون في البيت كهرباء فكنا نستضيء بالمصابيح تضاء بالبترول، ولم أستضئ بالكهرباء حتى فارقت حينا إلى حي آخر أقرب إلى الأرستقراطية.

وطعامنا يطهى على الخشب ثم تقدمنا فطهونا على رجيع الفحم (فحم الكوك) ثم تقدمنا أخيرًا فطهونا على (وابور بريمس).

وكان أبي مدرسًا في الأزهر ومدرسًا في مسجد الإمام الشافعي وإمام مسجد ويتقاضى من كل ذلك نحو اثني عشر جنيهًا ذهبًا، فلم نكن نعرف جنيهات الورق، وأذكر — وأنا في المدرسة الابتدائية — أن ظهرت عملة الورق فخافها الناس ولم يؤمنوا بها وتندرت الجرائد الهزلية عليها. وكانت لا تقع في يد الناس — وبخاصة الشيوخ — حتى يسرعوا إلى الصيارف فيغيروها ذهبًا.

وكانت الاثنا عشر جنيهًا تكفينا وتزيد عن حاجتنا ويستطيع أبي أن يدخر منها للطوارئ، إذ كانت قدرتها الشرائية تساوي الأربعين جنيهًا والخمسين اليوم. فعشر بيضات بقرش. ورطل اللحم بثلاثة قروش أو أربعة، ورطل السمن كذلك وهكذا، ومن ناحية أخرى كانت مطالب الحياة محدودة ومعيشتنا بسيطة.

ولم نر فيمن حولنا عيشة خيرًا من معيشتنا نشقى بالطموح إلى أن نعيش مثلها.

ويغمر البيت الشعور الديني، فأبي يؤدي الصلوات لأوقاتها ويكثر من قراءة القرآن صباحًا ومساء، ويصحو مع الفجر ليصلي ويبتهل، ويكثر من قراءة التفسير والحديث، ويكثر من ذكر الموت ويقلل من قيمة الدنيا وزخرفها ويحكي حكايات الصالحين وأعمالهم وعبادتهم، ويؤدي الزكاة ويؤثر بها أقرباءه ويحج وتحج أمي معه — ثم هو يربي أولاده تربية دينية فيوقظهم في الفجر ليصلوا ويراقبهم في أوقات الصلاة الأخرى ويسائلهم متى صلوا وأين صلوا.

وأمي كانت تصلي الحين بعد الحين — وكلنا يحتفل برمضان ويصومه — وعلى الجملة فأنت إذا فتحت باب بيتنا شممت منه رائحة الدين ساطعة زاكية.

وبعد، فما أكثر ما فعل الزمان، لقد عشت حتى رأيت سلطة الآباء تنهار، وتحل محلها سلطة الأمهات والأبناء والبنات وأصبح البيت برلماًنا صغيرًا.

فتصادمت وتحاربت وتخاصمت، وكانت ضحيتها سعادة البيت وهدوءه وطمأنينته.

وغزت المدنية المادية البيت فنور كهربائي وراديو وتليفون، وأدوات للتسخين وأدوات للتبريد، وأشكال وألوان من الأثاث. ولكن هل زادت سعادة البيت بزيادتها؟

وسفرت المرأة وكانت أمي وأخواتي محجَّبات — لا يرين الناس ولا يراهن الناس إلا من وراء حجاب — وهذا من أمور الانقلاب الخطير.

ولكن خفف من وقعها علينا أنها تأتي تدريجًا، ونألفها تدريجيًا، ويفُتر عجبنا منها وإعجابنا بها على مر الزمان، ويتحول شيئًا فشيئًا من باب الغريب إلى باب المألوف.

الفصل الرابع

كان هذا البيت أهم مدرسة تكونت فيها عناصر جسمي وخلقي وروحي.

لقد كانت أمي قصيرة النظر فورثت عنها قصر النظر، ولقيت من عنائه في حياتي الشيء الكثير، فإذا تقدمت للدخول في دار العلوم حرمت من ذلك لقصر نظري، وإذا تقدمت للدخول في مدرسة القضاء فكذلك إلا أن تحدث معجزة. وإذا أريد تثبيتي في وظيفة سقطت في امتحان النظر، ولم أَُثَبَّت إلا بمعجزة أخرى.

اضطررت من شبابي إلى أن ألبس نظارة، وكنت من سنة إلى أخرى أغير النظارة بأخرى أسمك منها، حتى صارت في آخر الأمر نظارة سميكة.

وقد رأيتني فيما بعد أحتاج إلى نظارتين، نظارة للقراءة ونظارة للسير والعمل.

وربما كان هذا عاملا من عوامل حبي العزلة حتى لا أقع في مثل هذه الأغلاط، ولكن أحمد الله أن كان نظري على قصره سليمًا، فقد احتملني على كثرة قراءتي ومداومة النظر في الكتب حتى جاوزت الستين.

وإن رأيت ديًنا يسكن في أعماق قلبي، وإيماًنا بالله لا تزلزله الفلسفة ولا ُتشكك فيه مطالعاتي في كتب الملحدين، أو رأيتني أكثر من ذكر الموت وأخافه، ولا أتطلع إلى ما يعده الناس مجدًا ولا أحاول شهرة.

فمرجعه إلى تعاليم أبي وما شاهدته في بيتي.

لقد قرأت الكثير مما يخالف هذه التعاليم، وصاحبت أهل المرح وسمعت آراء الإلحاد.

نعم إني لأعرف من نشئوا في بيت كبيتي تغمره النزعة الدينية كالنزعة التي غمرت بيتي. ومع هذا ثاروا على هذه النزعة في مستقبل حياتهم. وانتقلوا من النقيض إلى النقيض. ولم يعبئوا بالسلطة الدينية التي فرضت عليهم في صغرهم. فلماذا كان موقفهم غير موقفي واتجاههم غير اتجاهي؟ هل كان ذلك لأن الدين يتبع المزاج إلى حد كبير، أو لأن شخصية أبي كانت قوية غرست في ما لم يستطع الزمان اقتلاعه، أو أن عوامل البيئة زادت هذه النزعة الدينية نموًا، فلم جاءت العاصفة جاءت متأخرة؟ لعله شيء من ذلك أو لعله كل ذلك أو لعله شيء غير ذلك.

وعلى كل حال فالبيت يبذر البذور الأولى للحياة ويتركها للتربة التي تعيش فيها، والجو الذي يعاكسها أو ينميها، حتى تعيش عيشتها المقدورة لها وفًقا لنظام الكون وقوانينه.

الفصل الخامس

وكان في كل حي «مناد» يستأجر لينادي على الأولاد التائهين،

ثم يختمه كل مرة بقوله «يا عدوي» والعدوي هذا شيخ من أولياء الله الصالحين موكل برد التائه إلى أهله.

وحدث مرة أن أخذني والدي إلى المسجد بجوار بيتنا ليصلي ولم يكن بالمسجد غيرنا. فخلع والدي جبته وجوربه وشمر أكمامه وذهب إلى «الميضأة» ليتوضأ

ومن أراد أن يتوضأ من الميضأة جمع الماء بين كفيه وغسل وجهه ثم يعود الماء إلى الميضأة بعد الغسل كما أخذ، وكانت هذه الميضأة مصدر بلاء كبير، فقد يتوضأ المريض بمرض معد كالرمد ونحوه فيتلوث الماء ويعدي الصحيح، هذا إلى قذارته. فالمتوضئ يغسل وجهه بعد أن غسل من قبله رجليه، ولكن الاعتقاد الديني يغطي كل هذه العيوب والأخطار،

ولذلك كان مما أخذ على الشيخ محمد عبده وعيب عليه أن أبطل ميضأة الأزهر وأحل محلها الحنفيات، وهكذا يألف الناس القديم الضار ويكرهون الجديد النافع ويدخلون في الدين ما ليس في الدين.

توضأ أبي وذهب يصلي، وبقيت أنظر إلى البئر وإلى الميضأة وأتجول بينهما فتزحلقت وغرقت في الميضأة، وغمر الماء رأسي ولولا أن أبي كان قريباً مني وسمع الحركة وأسرع إلى الميضأة وانتشلني ما كنت من ذلك الحين من الأحياء.. وهكذا نجوت من هذا الحادث على هذا الوجه، وكان يمكن أن تختصر حياتي كلها وتقف عند هذا الحد لو تأخرت في الماء دقيقة ولم يلتفت أبي إلى هذه الرجة — وكم من أرواح نجت بمثل هذا وأرواح ضاعت بمثل هذا أيضاً — وعلى كل فلسفة الحوادث وفلسفة القدر غامضة عجيبة.

وبعد ذلك حدثت لي حادثة ثالثة، فقد مر بحارتنا قبيل الغروب سائل يستجدي بالفن

أعجبني هذا وطربت له فتبعته

ولو كان أبي فناًنا لقبلني لأنه كان يكتشف في أذًنا موسيقية وعاطفة قوية

الفصل السادس

وكانت المدرسة الثانية هي «حارتي» فقد لعبت مع أبنائها وتعلمت منهم مبادئ السلوك

وكانت حارتنا مثالا للأسر في القرون الوسطى قبل أن تغزوها المدنية بماديتها ومعانيها — فقد ولدت عقب الاحتلال الإنجليزي بنحو أربع سنوات، ولم يكن الفرنج قد بثوا مدنيتهم إلا في أوساط قليلة من الشعب، هي أوساط بعض من يحتك بهم من الأرستقراطيين وأشباههم.

وليس فيها من يقرأ كتاباً حديثا مترجماً أو مكتوباً بالأسلوب الحديث. ومن يقرأ منهم فإنما يقرأ القرآن والحديث والقصص القديمة

ولم تكن قد سادت النزعة الأوربية التي لا تقدر الجوار

إنما كانت تسود النزعة العربية التي تعد الجار ذا شأن كبير في الحياة،

وتمثل هذه البيوت طبقات الشعب، فكان من هذه الثلاثين بيًتا بيت واحد من الطبقة العليا، ونحو عشرة من الطبقة الوسطى ونحو عشرين من الطبقة الدنيا.

فالغني من الطبقة العليا كان شيخاً معمماً، يدل مظهره على أنه من أصل تركي، وجهه أبيض مشرب بحمرة، طويل عريض وقور، ذو لحية بيضاء، مهيب الطلعة

هو نائب المحكمة العليا الشرعية وسيد الحارة، إذا حضر من عمله تأدب أهلها، فلا ترفع نساء الطبقة الدنيا أصواتهن، وإذا جلس في فناء بيته تأدب الداخل والخارج، وإذا تجرأت امرأة على رفع صوتها أتى خادمه الأسود فأحضرها أمام الشيخ وزجرها زجرة لم تعد لمثلها

وبيته الواسع الكبير لا يشمل إلا سيدة تركية، وخدماً من الجواري السود اللاتي كن مملوكات وعبيداً سوداً — فقد كان في القاهرة أسواق وبيوت لبيع الجواري البيض والسود، يذهب من أراد الشراء فيقلب العبد أو الجارية ويكشف عن جسدها ليرى إن كان هناك عيب، ثم يساوم في ثمن من أعجبه فيشتريه ويكون له ملكاً.

وظل هذا الحال إلى عهد إسماعيل، فتدخلت الدول الأوربية ووضعت معاهدة لإلغاء الرقيق وأعتق كل مالك رقيقه، ومع ذلك بقي كثير من العبيد والجواري في بيوت أسيادهم للخدمة ونحوها

وعلى الجملة فكان المستبد في حارتنا كاستبداد أبي في بيتنا، واستبداد الحكام في مصالح الحكومة.

أما الطبقة الوسطى، فكانت تتألف من موظفين في الدواوين

دخل كل منهم في الشهر ما بين سبع جنيهات واثني عشر

ويعلمون أولادهم في الكتاتيب ثم المدارس

والآخر كان كاتباً صغيراً في ديوان الأوقاف أيضاً، ولكنه يهوى الدف والضرب عليه ويجيده،

فيقضون ليالي لطيفة في أدوار موسيقية وغناء، وكنت أغذي بها نفسي يوم لم يكن راديو ولا فونوغراف — وكان رئيس البيت — وهو والد هذا المغني صالحاً ظريفًا لا تفوته صلاة. وكان صاحب البيت الثاني وهو الفتى المغني سكيرا لا يكاد يفيق مع أن أباه كان إمام مسجد الحي.

وبيوت الطبقة الدنيا يسكنها بناء أو مبيض أو خياط أو طباخ أو صاحب مقهى صغير أو بائع جوال على عربة يدفعها بيديه. وهؤلاء كثيرو الأولاد بؤساء ولا يشعرون ببؤسهم. يعيشون أغلب أيامهم على الطعمية والفول المدمس والبيسار والسمك يشترى مقلياً من الدكان، وقليلا ما يستطيعون أن يطبخوا، كما أن أولادهم لا يعلمون في كتاب ولا مدرسة. وإنما يتركون ليكبروا فيعملوا عمل آبائهم. نساؤهم قد يجلسن سافرات على باب البيت، وكثيرا ما تقوم بينهن الخصومات فيتبادلن السباب أشكالا وألونا

ولكن مع اختلاف هذه الطبقات فقد كنا — نحن الأطفال — ديمقراطيين، لا نقيم كبير وزن لغنى ولا فقر ولا تعلم ولا جهل

وكان من أعجب الشخصيات في حارتنا «الشيخ أحمد الشاعر» رجل بذقن طويل أسود، يلبس جلبابا أبيض وعمامة، ويتأبط دائماً كتاباً لف في منديل أحمر، له صوت أجش، وظيفته التي يعيش منها أنه بعد صلاة العشاء يذهب إلى مقهى قريب من الحارة ويصعد فوق كرسي عال، يجلس عليه ويتحلق حوله الناس، ثم يفك المنديل ويخرج الكتاب وهو قصة عنترة أو «الزير سالم» أو «الظاهر بيبرس» ويقرأ فيه بصوته العالي. متحمساً في موضع التحمس متخاذلا في موضع التخاذل، مغنياً بما يعرض من الشعر فإذا كان في القصة بطلان تحمس فريق لبطل وتحمس فريق لآخر. وقد يرشوه أحد الفريقين ليقف في نهاية الجلسة على موقف رائع لبطله — وله أجر من صاحب المقهى لأنه يكون سبباً لازدحام مقهاه بالزائرين.

ولكن أعجب من هذا «الشيخ أحمد الصبان»،

فما هو إلا أن سكنت جسمه العفاريت وصار يغيب عن الوجود حينا، ثم يتغير صوته العادي ويتكلم بصوت جديد يخبر به عن المغيبات، وإذا هو يصير الشيخ أحمد الصبان، بعد أن كان عم أحمد؛ وإذا هو يشتهر في الحارة بأنه يعلم الغيب ويخبر بالمستقبل

واتسع رزقه وصلح حاله، وانتقل من حجرته الضيقة إلى مسكن فسيح، وانقسم فيه أهل الحارة قسمين: قليل منهم يقول إنه نصاب وكثيرون يقولون «سبحانه ما أعظم شأنه، يضع سره في أضعف خلقه»؟!

كانت نسبة المواليد في الحارة نسبة عكسية مع الطبقات، فأفقر الطبقات أكثرها عدداً

فالحالة الصحية أسوأ ما يكون، لا عناية بنظافة ماء ولا بنظافة أكل؛ وهم لا يعرفون طبيباً، وإنما يمرض المريض فيعالجه كل زائر وزائره

فتكون العدوى أمراً سهلا ميسوراً، ولذلك كان كثيراً ما يتخطف الموت أصدقائي من الأطفال حولي.

فقل أن يحتاج أهل الحي إلى شيء أبعد من حيهم، ومن أجل هذا كانت دنياي في صباي هي حارتي وما حولها.

ومرة شاهدت حفلة «زار» لسيدة تدعي أنه ركبها عفريت سوداني فاجتمعت السيدات

وبعضهن يرقص رقصاً بديعاً على الأسلوب الحديث في الرقص

وادعى بعضهن وقد يكون صحيحاً أنهن فقدن الوعي وأن حركاتهن تأتي عن غير شعور

وكان منظراً غريباً جميلا وادعت فيه سيدة الزار بعد ذلك أنها قد هدأت أعصابها وشفيت من مرضها، والظاهر أن مرضها كان مرض وهم زال بالزار الذي هو عمل الوهم.

كل ذلك كان دروساً عملية وتجارب قيمة لا يستهان بها، فإذا أنا قارنت بين نفسي في تجاربي هذه التي استفدتها من حارتي، وأولادي في مثل سني التي أتحدث عنها وقد ربوا تربية أخرى، فلا جيران يعرفون، ولا بأهل حارة يتصلون، ولا مثل هذه العلاقات التي ذكرتها يشاهدون؛ أدركت الفرق الكبير بين تربيتنا وتربيتهم، وكثرة تجاربنا وقلة تجاربهم، ومعجم لغتنا ومعجم لغتهم، ومعرفتنا بصميم شعبنا وجهلهم.

الفصل السابع

أما المدرسة الثالثة فكانت الكتاب. وقد كان في ذلك العصر كتاتيب ومدارس ابتدائية وثانوية قليلة، راقية بعض الرقي.

وزير فيه ماء يكاد يسود من الوسخ، عليه غطاء من الخشب، قد ثبت في الغطاء حبل طويل ربط فيه كوز ليستقي منه الشارب ويتناول الكوز ليشرب منه النظيف والقذر والمريض والصحيح

ومسمار كبير في الحائط علقت فيه «الفلقة» وهي عصا غليظة تزيد قليلا عن المتر، ثقب فيها ثقبان ثبت فيهما حبل، فإذا أراد سيدنا ضرب ولد أدخلت رجلاه في هذا الحبل ولويت عليهما الخشبة، فلا تستطيع القدمان حركة، ونزل عليهما سيدنا بالعصا.

ولا بأس أن يكون في الأولاد مريض وصحيح وقذر ونظيف وملوث وغير ملوث. فعلى الله الاتكال، والبركة تمنع من العدوى.

ومن حين لآخر يمر أبو الطفل على سيدنا فيسأله عن ابنه ويطلب منه أن «ينفض له الفروة»، وهذا اصطلاح بين الآباء وفقهاء الكتاب أن يشتدوا على الطفل ويضربوه، فلا تعجب بعد ذلك إذا وجدت أرواحاً ميتة ونفوساً كسيرة. ومن أجل هذا كان أكره شيء علينا الكتاب واسم الكتاب وسيدنا؛ بل أذكر مرة أني كنت في البيت آكل مع أمي وإخوتي، فما أشعر إلا وقد انتفضت من غير وعي، لتوهمي أن عصا سيدنا نزلت علي لأني لم أهتز، وكان أكره ما أكره يوم السبت صباحاً عند الذهاب إلى الكتاب، وأحب ما أحب يوم الخميس ظهراً لأنه سيلحقه يوم الجمعة وفيه لا كتاب.

وذهبت إلى الكتاب الثاني وكان سيدنا فيه رجلا غريب الأطوار يعقل حيًنا ويجن حيًنا، ويشتد ويلين، ويضحك ويبكي، وإذا سار في الشارع جرى فضحك من جريه الصغار، لا أذكر ماذا فعلت فنادى ولدين قويين وأدخلا رجلي في الفلقة وأمسك بعصا من جريد النخل وأخذ يهوي بها على قدمي بكل قوته حتى شق قدمي شًقا طويلا وتفجر الدم منها، ثم أسلمني لهذين الولدين يحملانني إلى بيتي، وكان هذا آخر العهد بهذا الكتاب.

فأين ذلك مما نحن فيه الآن، الأطفال في مثل طبقتي، إنهم يذهبون إلى رياض الأطفال فتعلمهم سيدات مهذبات أو آنسات ظريفات، يعلمن على أحدث طراز من البداجوجيا. ويتدرجن بهم من اللعب إلى القراءة، ويتحايلن على تشويق الطفل إلى الألف والباء، ويسرقن التعليم عن طريق الصور أو القصص أو نحو ذلك، ويقلبن ما كنا فيه من عيش جاف إلى حلوى. وأكثر أوقات النهار مرح ولعب، ودروس كأنها لعب، وأناشيد ظريفة وموسيقى لطيفة، وطبيب يزور المدرسة كل يوم، ومريض لا يحضر إلى المدرسة إلا بعد أن يأتي بشهادة أنه صحيح، والعلم يعطى كما يعطى كوب من الشربات، وبسكويت ولبن وشاي بدل الفول النابت والمخلل، وضرب على «البيان» بدل الضرب على الأبدان، ونحو ذلك من ضروب النعيم.

الفصل الثامن

وشوارعنا قذرة لا يعنى فيها بكنس ولا رش، وإذا كنست أو رشت فالمارة خليقون أن يفسدوا كل شيء في لحظة

وبيتنا لم يكن يعنى بتربية الذوق أية عناية، فليس فيه لوحة جميلة ولا صورة فنية، ولا أثاث منسق جميل، ولا زهرية ولا أزهار، وكل ما أذكره من هذا القبيل أن أبي كان يشتري في موسم النرجس بعضاً من أزهاره ويضعه في كوب من الماء على الشباك، ويشمه من حين لآخر

والشعور بالجمال أكبر نعمة، وتربية الذوق خير ما يقدم إلى الناشئ حتى من ناحية تقويم أخلاقه.

على كل حال، أحمد لأبي أن أخرجني من هذه الكتاتيب الكريهة، وأدخلني مدرسة ابتدائية هي مدرسة «أم عباس» أو كما تسمى رسميا «والدة عباس باشا الأول» أو كما تسمى اليوم مدرسة بنباقادن. كانت مدرسة نموذجية، بنيت على أفخم طراز وأجمله: أبهاء فسيحة فرشت أرضها بالمرمر وحليت سقوفها بالنقوش المذهبة، وفي أعلى المدرسة من الخارج إطار كتبت عليه آيات قرآنية كتبها أشهر الخطاطين بأحسن خط. وموهت بالذهب؛ فكان هذا الجمال الجديد عزاء لذلك القبح القديم.

ولبست بدلة بدل الجلباب، ولبستُ طربوشاً بدل الطاقية وأحسست علواً في قدري، ورفعة في منزلتي، وخالطت تلاميذ الطبقة الوسطى أو العليا لا نسبة بينهم في نظافتهم وجمال شكلهم وبين أبناء الكتاتيب وأبناء الحارة.

وقد وضع لي أبي برنامجاً مرهًقا لا أدري كيف احتملته. كان يوقظني في الفجر فأصلي معه، ثم أقرأ جزءاً من القرآن وأحفظ متًنا من المتون الأزهرية كألفية ابن مالك في النحو، حتى إذا طلعت الشمس أفطرت ولبست ملابسي وذهبت إلى المدرسة أحضر دروسها إلى الظهر. وفي فسحة الظهر أتغدى في المدرسة على عجل وأذهب إلى كتاب بمسجد شيخون قريب من المدرسة. وقد اتفق أبي مع فقيه الكتاب أن يسمع مني جزءاً من القرآن حتى إذا ما أتمته سمعت جرس المدرسة فذهبت إلى الفصل. ثم أحضر حصص المدرسة بعد الظهر، فإذا دق الجرس النهائي خرجت إلى البيت وخلعت ملابسي المدرسية ولبست جلباباً وذهبت إلى المسجد الذي أبي إمامه١ فمكثت معه من قبيل المغرب حتى يصلي العشاء أستمع لدرسه الذي يلقيه في المسجد بين المغرب والعشاء، ثم أعود معه إلى البيت، وفي أثناء الطريق يحفظني بيًتا من الشعر أو بيتين ثم يسألني إعرابه فأعربه، ويصحح لي خطئي، كل ذلك ونحن سائران في الطريق، ثم أتعشى وأنام.

فأمسك العصا من وسطها. فكان يعدني للأزهر بحفظ القرآن والمتون، ويعدني للمدارس المدنية بدراستي في المدرسة. وهذا أسوأ حل، ولكن جزاه الله خيراً على تعبه المضني في التفكير في مستقبلي. وغفر الله له ما أرهقني به في دراستي.

كنت في هذه السن متديًنا شديد التدين. وكان بالمدرسة مسجد صغير أعد إعدادا حسًنا، فكنت أصلي فيه الصلوات لأوقاتها. وكنت أقوم الليل وأتهجد وأحب الله وأخشاه. وتنحدر الدموع من عيني أحياًنا في ابتهالاتي، وأسجد فأطيل السجود والدعاء، وأحفظ أدعية من الابتهالات والتوسلات. ومن شدة فكري في الله رأيته في منامي مرة، على شكل نور يغمر الغرفة ويخاطبني قائلا: اطلب ما أدلك به على قدرتي فطلبت أن يعمل من قطعة حديد سكيًنا، ومن قطعة خشب شباكاً، ففعل. فآمنت بقدرته وحكيت المنام لأهلي، ففرحوا به فرحاً عظيماً، وزادوا في محبتي.

الفصل التاسع

ها أنا في سن الرابعة عشرة تقريباً، يلبسني أبي القباء والجبة والعمة والمركوب بدل البدلة والطربوش والجزمة، ويكون منظري غريباً على من رآني في الحارة أو الشارع

والمصيبة الكبرى كانت حين يراني من كان معي في المدرسة، فقد كان يظن أني مسخت مسخاً وتبديت بعد الحضارة، وكأن الذي يربط بيني وبينهم هو وحدة لبسي ولبسهم لا طفولتي وطفولتهم، ولا زمالتي وزمالتهم، فنفروا مني مع حنيني إليهم، وسرعان ما انقطعت الصلة بيني وبينهم

وما آلمني أني أحسست العمامة تقيدني فلا أستطيع أن أجري كما يجري الأطفال ولا أمرح كما يمرح الفتيان، فشخت قبل الأوان، والطفل إذا تشايخ كالشيخ إذا تصابى كلا المنظرين ثقيل بغيض، كمن يضحك في مأتم أو يبكي في عرس.

وأحياًنا أرى في بعض الأركان كتاباً ككتابي القديم. فأفهم أن الأزهر امتداد للكتاب لا امتداد للمدرسة.

وقارنت بين حصير الأزهر ومقاعد المدرس، ومدرس الأزهر ومدرس المدرسة، وفناء الأزهر حيث يشمس الخبز وفناء المدرسة حيث نلعب ونمرح، فكانت مقارنة حزينة

بعد أن يقيد الطالب في دفتر الأزهر يترك وشأنه، فهو يختار العلوم التي يدرسها، والكتب التي يقرؤها، والمدرسين الذين يدرسونها، فإذا لم يرزق بمرشد يرشده غرق في هذا البحر الذي لا ساحل له، وليس يعرف أحد أغاب أم حضر، تقدم في العلم أم تأخر، وليس يمتحن آخر العام فيما درس، ولا يسأله أحد ماذا صنع، فإن احتاج الطالب في شأن من الشئون أن يأخذ شهادة بأنه حضر الكتب الفلانية على المشايخ الفلانيين فما عليه إلا أن يكتب الورقة كما يشاء وبالكتب التي يشاء وبالمدرسين الذين يشاء، ثم يمر عليهم فيوقعونها في سهولة ويسر، ولو كانت هذه أول نظرة من المدرسين للطالب، ولو كانت سنة لا تتفق وهذه الكتب العويصة التي يستخرج الشهادة بسماعها، فأي ضرر في ذلك «وبارك الله فيمن نفع».

ولم تكن أوقات الدروس كما عهدتها في المدرسة تؤقت بساعات النهار، إنما تؤقت بالصلوات فدرس النحو عقب صلاة الظهر، ودرس الجغرافيا والحساب عقب صلاة العصر، ودرس التفسير والحديث عقب صلاة الفجر، ودرس الفقه عند طلوع الشمس

وأحسن ما كان في الطريق باعة الفطور، فإن كان اليوم فقيراً اكتفيت بطبق من «البليلة» يجلس بائعها على قارعة الطريق وأمامه طست كبير مليء بالذرة المغلية الناضجة، ووضع على نار هادئة حتى يبقى ساخًنا، وبجانبه ماعون كبير مليء سكراً ناعماً، أشتري منه بربع قرش فيملأ لي طبًقا من الطست ويرش عليه من السكر، فآكله وأنا واقف وأمسح فمي بالمنديل وأحمد الله وأستمر في السير

ثم يعود ذهني إلى ما يلقيه الشيخ، فأجده في الجملة نفسها وفي الاعتراضات والإجابات نفسها، ويسأل بعض الطلبة أسئلة فلا أفهم ما يسألون، ويجيب الشيخ فلا أفهم ما يجيب، واستمر الحال على هذا المنوال ساعتين أو أكثر من غير أن ينتقل الشيخ من هذه الجملة، وسررت عندما قال الشيخ «والله أعلم» إيذانا بأن الدرس قد انتهى. وقمت وقام الطلبة يحتاطون بالشيخ، ويقبلون يده فلم أسلم ولم أقبل، وخرجت من هذا المسجد إلى الأزهر نفسه.

وكان هذا يوما نموذجياً جرت الأيام بعده على نمطه، لم أتقدم في الفهم ولم أستسغ الأسلوب. وفكرت طويلا في عودتي إلى المدرسة فلم أستطع، وفي طريقة للهرب فلم أوفق؛

ولاحت مني مرة نظرة إلى فتيين أنيقين في مثل سني، يلبسان ملابس أنيقة، وتدل مظاهرهما وأناقتهما على النعمة. فعملت الحيلة للتعرف بهما فإذا هما فتيان قاهريان من أبناء العلماء كأبي، ولكنهما مدللان في بيوتهما، وفي معاملة أبويهما لهما، وكنت أتلهف على صداقة فصادقتهما، وأشتاق إلى ملء زمني فلازمتهما، وعلمت أثناء حديثهما أن لكل منهما خزانته وهي جزء من دولاب في رواق من أروقة الأزهر، يضع كل منهما فيها فروة نظيفة يجلس عليها في الدرس حتى لا تتسخ ثيابه، «ومزا» أصفر يلبسه في رجليه إذا سار في الأزهر حتى يحافظ على نظافة جوربه.

ففعلت فعلهما وتأنقت تأنقهما، ولكن كان ذلك من وراء أبي لأنه لا يحب الأناقة ولا البهرجة، بل ضربني مرة لأني تأنقت في الحزام الذي أشد به وسطى وتركت له ذيلا، كما يفعل المتأنقون ووضعت ساعة في جيبي عن يميني، وكان أثناء ضربه يقول: «هل أنت ابن السيوفي» والسيوفي هذا كان غنياً مشهوراً، وكان شاهبندر التجار. فتركت من يومها أناقتي ولم أعد أريه أني ابن السيوفي.

ورأيتهما يشكوان مما أشكو فلا يفهمان كما أني لا أفهم ولا يستفيدان كما أني لا أستفيد، واقترح أحدهما أن نهرب من بعض الدروس، ونلتمس مكاًنا في الأزهر بعيداً بعض الشيء عن الأنظار، نلعب فيه القمار، فلبينا الدعوة، إذ كان في هذا اللعب مسلاة عن ثقل الدرس، وراحة من عناء الشيخ.

ولكن تنبه ضميري بعد أشهر وفهمت أن هذه الحال تؤدي إلى سوء المآل، فتركت صحبتهما والتفت إلى دروسي.

وأذكر أنه أتاه خطاب يهدده بالقتل لأنه كافر ملحد، وبعد أن قص علينا القصة قال: «لتمنيت أن يكون هذا صحيحاً فيوم يشجع المصري ويقتلني، أكون فخوراً» ثم أنشد قول القائل: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً … أبشر بطول سلامة يا مربع

الفصل العاشر

وكان مستنير الذهن لم يعبأ بما يقوله شيوخ الأزهر في الشيخ محمد عبده من رمي بالزندقة والإلحاد، فكان يحضر دروسه في تفسير القرآن ويسمع منه كتاب دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة

وأخيراً تغلب علي وشوقني إلى دروسه بما كان ينقل إلى من آرائه. فحضرت درسين اثنين، فسمعت صوًتا جميلا ورأيت منه منظراً جليلا، وفهمت منه ما لم أفهم من شيوخي الأزهريين، وندمت على ما فاتني من التلمذة عليه، واعتزمت أن أتابع دروسه، ولكن كان هذان الدرسان هما آخر دروسه رحمه الله.

وكانت دروسه مملوءة بالفكاهات الظريفة. فمرة مثلا دخلت في الدرس فتاة صغيرة تريد أن تسر إلى أبيها كلاماً فجلست بجانبه، وكانت هذه الأيام حركة قاسم أمين. فقال الشيخ: إن هذه هي المرأة الجديدة. إذ كان قاسم أمين ألف كتاباً سماه «المرأة الجديدة»

كنا نجلس قبل الدروس نحضرها فيوضح لي صاحبي بعض ما غمض من الرموز والعبارات، فأستطيع أن أتابع الشيوخ فيما يقولون إلى حد ما.

ومرة جاء صاحبي هذا وفي يده جريدة «المؤيد» وأطلعني على إعلان بحاجة «الجمعية الخيرية الإسلامية» إلى مدرسين للغة العربية بمدارسها، وكيفية تقديم الطلبات وموعد الامتحان، وأن من وقع عليه الاختيار عين مدرساً في إحدى مدارس الجمعية بثلاثة جنيهات في الشهر، وأغراني بتقديم الطلب فتقدمت وبحضور الامتحان فامتحنت.

والحق أن أبي كان يمتاز على كثير من شيوخ الأزهر بأشياء كثيرة — كان واضح العبارة قادراً على الإفهام من أقصر الطرق.

فرتب لي دروساً في النحو، واختار لي من كتبه طبعات ليس عليها حواش حتى لا يتشتت ذهني فيها — قرأ لي شرح الأجرومية للشيخ خالد، ثم كتاب قطر الندى، وكتاب شذور الذهب لابن هشام، ثم شرح ابن عقيل على الألفية، وكلها كتب تمتاز بوضوح العبارة وسهولة الأسلوب.

ودلنا أحدهم على كتاب ظهر للشيخ إبراهيم اليازجي اسمه «نجعة الرائد»، يذكر فيه أحسن ما قالته العرب في الموضوع الواحد، فأحسن ما قيل في الشجاعة والجبن، والكرم والبخل، والحلم والغضب إلخ. فاشتريناه وأخذنا أنفسنا بالحفظ منه.

وظللت مع ذلك غير مرتاح لبقائي في الأزهر، ورأيت بعض زملائي يقدمون طلباً للدخول في مدرسة دار العلوم، فقدمت مثلهم، ورأيت الأمر سهلا علي؛ فهم يمتحنون في حفظ القرآن وأنا أحفظه، ويمتحنون في حفظ الألفية وفهمها وأنا أحفظها وأفهمها وحلمت إذ ذاك بمدرسة نظامية واضحة الحدود واضحة المعالم، مفهومة الغاية، يدخل فيها الطالب فيقضي أربع سنوات يتعلم فيها على خير الأساتذة، ثم يخرج مدرساً في المدارس الأميرية. ولكن قبل الامتحان لابد من الكشف الطبي وأنا قصير النظر، هذه هي العقدة.

ذهبت إلى أكبر طبيب إنجليزي فكشف على عيني، وكتب لي أضخم نظارة قانونية تناسب نظري، ومع ذلك تقدمت للامتحان فسقطت، وحز في نفسي أن أرى زملائي ينجحون ولا أنجح، ويدخلون المدرسة ولا أدخل، ثم عدت إلى الأزهر.

الفصل الحادي عشر

فسافرت ورأيت البحر أول مرة فسحرني وصرت آنس به، وأجلس إليه وأتأمل في أمواجه. فأنسى لوعة غربتي، وحببت إلي القراءة في المكان الخالي على شاطئه. هناك قرأت بعض كتب الغزالي فشعرت بنزعة صوفية، وحفظت كثيراً من نهج البلاغة إعجاباً بقوة أسلوبه، وقرأت كتاب أشهر مشاهير الإسلام لرفيق بك العظم فتحمست لأبطال الإسلام وأعجبت منه بتحليل شخصياتهم، وفلسفة الحوادث في أيامهم.

ولكن أعظم ما كسبته في الإسكندرية، تعرفي بشخصية قوية، كان لها أثر كبير في نفسي

اتصلت به فأعجبني من أول نظرة، واتخذني أخاً صغيراً واتخذته أخاً كبيراً، وكان متديًنا، بل كان صوفياً، يعتنق طريقة النقشبندية، وهي طريقة ليس لها شعائر، ولا تقاليد ظاهرة للناس.

وكان — مع تصوفه هذا — واسع الأفق حر الفكر، لا يدين بشيء من الخرافات والأوهام، ويؤيد الشيخ محمد عبده في دعوته إلى الإصلاح،

ولم يكن في درسه مدرس لغة عربية فحسب، بل مدرس تفكير ونقد للمجتمع، وما شئت من شئون الحياة، حتى كان تلاميذه يسمونه الشيخ الإنجليزي، لترفعه وحريته وصدق قوله وسعة فكره.

صحبته، فكان مكملا لنقصي، موسعاً لنفسي، مفتحاً لأفقي، كنت أجهل الدنيا حولي فعرفنيها، وكنت لا أعرف إلا الكتاب، فعلمني الدنيا التي ليست في كتاب. وكان أبي وشيوخي يعاملونني على أنني طفل، فعاملني على أني رجل؛ فملأ فراغي وآنس وحدتي

فإذا مر علي صديقي الأستاذ أخذني وذهبنا إلى مقهى فخم، إما في محطة الرمل، أو كازينو المكس، أو نحو ذلك من الأماكن الممتازة حيث الموسيقى أحياًنا وجودة الهواء ومنظر البحر أحياًنا.

وعلى الجملة فلئن كان أبي هو المعلم الأول فقد كان هذا الأستاذ هو المعلم الثاني، انتقلت بفضله نقلة جديدة وشعرت أني كنت خامداً فأيقظني، وأعمى فأبصرني، وعبداً للتقاليد فحررني، وضيق النفس فوسعني.

وتدفعني الحماسة الوطنية إلى نقد أستاذ آخر لي نقداً فيه شيء من العنف فيلسع ذلك صديقي الأستاذ ويغضب له، ويكره من تلميذ أن يزل لسانه بمثل ما زل لساني في أستاذي، فيخاصمني ويقاطعني، وأسترضيه فلا يرضى، ثم أمعن في الاسترضاء، فيبدأ في الرضاء، ولكن يسرع إليه القضاء، فيموت وفي عيني دمعة، وفي قلبي حسرة. رحمه الله.

وأحسست كفايتي في تدريس القواعد، حتى كان من غروري أني أخطئ الكتب المدرسية التي قررتها وزارة المعارف

وكنت أمثل من هذه الأدوار دور المغفل الساذج الذي لم يعرف الدنيا ولم يختبر الناس.

أما علاقتي مع التلاميذ فكانت علاقة صداقة، أحبهم ويحبونني، وزاد من صداقتنا أننا متقاربو السن، فلم يكن تلاميذ السنة الرابعة صغاراً كما هم اليوم إنما كان أكثر الفصل الذي أدرس له بين الخامسة عشرة والعشرين

وكانت عاطفتي الدينية مشبوبة قوية بفضل نشأتي في بيتي، ثم استمرت بصحبتي من عرفتهم في الإسكندرية، فكنت أؤدي الصلوات لأوقاتها

وفي حجرتي أقرأ كل يوم ما تيسر من القرآن.

أما عاطفتي الوطنية فلم تكن قوية إلى ذلك العهد، لأني ولدت عقب الاحتلال بنحو أربع سنين، وقد استولى على المصريين إذ ذاك نوع من الخوف واليأس، وأحاط الإنجليز مظاهرهم بالعظمة والقوة

وقلما كان يتحدث أبي في السياسة وشئونها، فإذا تحدث ففلسفته فيها كفلسفة كثير من الشعب، أن هذا قضاء الله وانتقام من عبيده

ولا يمكن أن ترفع عنا هذه الغاشية حتى يستقيم المصريون ويعدلوا ويلتزموا أوامر الدين. أما نقد الحكام في تصرفهم، أو نقد الإنجليز في حكمهم، فمسكوت عنه لهذه الفلسفة.

فلما اتصلت في الإسكندرية بصديقي الأستاذ الذي أثر في كثيراً، وكانت له في السياسة فلسفة أخرى، كفلسفة الشيخ محمد عبده، إذ كان من أنصاره لا من أنصار «مصطفى كامل»، وفلسفته هي وجوب الإصلاح الداخلي أولا، بنشر التعليم الصالح، وترقية أخلاق الشعب، ثم الاستقلال يأتي بعد ذلك تبعاً عكس سياسة مصطفى كامل التي ترى أن ليس في الإمكان الإصلاح الداخلي للشعب ما لم يسبقه جلاء الإنجليز واستقلال المصريين. ولذلك كانت وطنية الشيخ محمد عبده عقلية، ووطنية مصطفى كامل وطنية شعورية، وقد تأثرت بكلام صديقي الأستاذ، وانحزت إلى رأيه.

ولكن حدث حادث دنشواي

حادثة دنشواي كما يعلمها القراء خلاصتها أن فرقة من الجنود الإنجليزية خرجت مع ضباطها من القاهرة إلى الإسكندرية فلما وصلت إلى منوف في سيرها قصد خمسة ضباط منهم بلدة دنشواي لعلمهم بأن فيها حماما يصاد، فبينما هم يصيدون خرجت من يد أحدهم رصاصة أصابت امرأة في «الجرن» واشتعلت فيه النار، فهاج زوجها وأراد أن يسوق الجندي إلى المركز، فاجتمع حول الضابط زملاؤه، وجاء رجال من أهالي البلدة لانجاد صاحبهم، فأطلق الضباط الإنجليز النار على الأهالي فأصيب بعضهم.

فهجم الأهالي على الضباط وجردوهم من سلاحهم وضربوهم بالعصي الغليظة فأصيب ضابطان وجرى ثالث وهو جريح، وعدا مسافة طويلة ثم سقط ميًتا، فلما علم الجنود الإنجليز بذلك حضروا وقبضوا على من حول القتيل من الأهالي، وفر أحدهم فأطلق الجنود الإنجليز عليه الرصاص وقتلوه ومثلوا بجثته فقامت الدنيا لهذا الحادث وقعدت وتوعدت الإنجليز أهل دنشواي بأشد العقاب.

ومن أظرف ما حدث في برنامجها أن خاف واضعو قانونها من أن يسموا الطبيعة باسمها، فيغضب الأزهريون، لأن لديهم بيًتا مشهوراً يتناقلونه ويتداولونه وهو: ومن يقل بالطبع أو بالعلة … فذاك كفر عند أهل الملة، فاحتالوا على ذلك ووضعوا الطبيعة والكيمياء في البرنامج تحت اسم «الخواص التي أودعها الله تعالى في الأجسام»

الفصل الثاني عشر

في هذا العام أثناء الدراسة مرضت بحمي التيفود مرضاً شديداً، حتى أشرفت على الهلاك، ولم يكن هناك عناية بالمرضى، كما يعنى اليوم، ولا يرضى الأهالي عن إرسال المريض إلى مستشفى الحميات كما يرسل اليوم، ولا عزل له عن سائر من في البيت حتى لا تنتشر العدوى، ولا استدعاء طبيب مختص يشرف إشراًفا دائماً على العلاج — لا شيء من ذلك — ولكن فرشت لي حشية على الحصير، في وسط الغرفة كما كنت أنام، وترك أمري لله، فلم يدع أهلي طبيباً، وكل ما في الأمر أن نفسي عافت الأكل فتركته

ويزورني أبي قبل خروجه إلى عمله، فيجلس على رأسي ويضع يده على جبهتي، ويقرأ الفاتحة، وآية الكرسي، والمعوذتين، ويختم ذلك بقوله: «حصنتك بالحي القيوم الذي لا يموت أبداً، ودفعت عنك السوء بألف ألف لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم». ثم ينفث في وجهي، وإذا عاد من عمله في المساء كرر هذا الدعاء. ونجوت منها بأعجوبة، بعد أن كان الموت أقرب إلي من حبل الوريد، ومكثت بعد ذلك مدة طويلة في دور النقاهة.

وكان قد عهد إلى الشيخ محمد عبده بالتفتيش على المحاكم الشرعية وفحص عيوبها، فقام بذلك خير قيام، وكتب تقريراً عظيماً، يبين فيه هذه العيوب، ويقترح وجوه الإصلاح، وعلى أثر ذلك فكرت نظارة الحقانية في إنشاء مدرسة، واحتضن فكرتها سعد باشا زغلول، إذ كان ناظراً للمعارف، وأميًنا على أفكار الشيخ محمد عبده.

وكان الخديوي عباس كارهاً لهذا المشروع أشد الكره، معارضاً فيه أشد المعارضة: لأنه يسلب الأزهر أعز شيء لديه، وهو الإعداد للقضاء الشرعي، وقد سلب من قبلُ إعداد مدرسي اللغة العربية بإنشاء دار العلوم

والأزهر وديوان الأوقاف هما المصلحتان اللتان أطلقت فيهما يد الخديوي، ولم تمسسهما يد الإنجليز، فقوتهما قوة له، وضعفهما ضعف له.

وكان من فرط خشيتي أني احتلت حتى حصلت على اللوحة التي سيستخدمها الطبيب في الكشف عن النظر. فحفظت حفظاً جيداً العلامات فيما عدا السطرين الأولين لأني أراهما،

فكان امتحاًنا عسيراً رسب فيه كل المتقدمين إلا خمسة، وكنت الثالث فشفع ذلك لي عند ناظر المدرسة في قصر نظري، وقبلنا نحن الخمسة وضم إلينا تسعة من أحسن الراسبين، وبعض هؤلاء التسعة — اختيروا — لأنهم من أبناء كبار العلماء في الأزهر

فكنت ترى مزيجاً عجيباً من الأساتذة، هذا شيخ أزهري تربى تربية أزهرية بحتة ودنياه كلها هي الأزهر وما حوله، بجانبه أستاذ للتاريخ على آخر طراز تخرج في جامعات إنجلترا وأستاذ للطبيعة تخرج في أشهر جامعات فرنسا، وعلى رأسهم ناظر تعلم في الأزهر وفي دار العلوم وفي إنجلترا، وكل من هؤلاء يلون الطلبة بلونه، ويصبغهم بصبغته، ويعلمهم على منهجه،

يقدسون ما ورد في الكتب حتى الخرافات والأوهام، ومن أقوى حججهم على صحة الرأي أنه ورد في كتاب من الكتب القديمة. وعقلية حديثة على آخر طراز، وجالس أصحابها أرقى الأساتذة الأجانب واستفادوا منهم، وعاشوا في المدينة الغربية. عرفوا آخر نوع من طرازها، وليس عندهم فكرة مقدسة إلا ما قام البرهان على صحتها، ودلت التجارب على ثبوتها، وبين هذين الطرفين أنواع من الأساتذة يأخذون بحظ منهما قل أو كثر.

الفصل الثالث عشر

وهم يذكروننا دائماً بالأزهر ومنهجه والقرون الوسطى ومناهجها، ويملئون رؤوسنا بالاحتمالات والتأويلات ويبثون في نفوسنا من طرف خفي تقديس المؤلفين والمؤلفات، فقل أن يخطئ المؤلف، وإذا أخطأ فهناك ألف وجه لتأويل كلامه بما يحتمل الصواب، ولكن كان لهذه الطريقة — والحق يقال — محمدة كبيرة، هي تعويدنا الدقة في التعبير والإيجاز في القول، والتزام المنطق فيما يقال.

وكان كثيراً ما يخرج من الدرس إلى تعاليم الشيخ محمد عبده، من الدعوة إلى عدم زيارة القبور وإنكار الشفاعة بالأنبياء والأولياء ونحو ذلك.٣

واتصلوا بالشيخ محمد عبده، وكانوا من خاصة تلاميذه، يعتنقون مبادئه ويستنيرون بآرائه وتوجيهاته، فلم يكونوا يلتزمون الكتب، وإنما يضعون مذكرات من أنفسهم يعتمدون فيها على الكتب القديمة، ولكنهم يعرضونها عرضاً جديداً.

ودرس لنا الشيخ محمد مهدي أدب اللغة العربية، وكان هذا الأدب حديث العهد في مصر، فالناس لم يكونوا يعرفون الأدب إلا على النحو الذي جاء في مثل كتاب الأغاني والعقد الفريد والأمالي ونحو ذلك. أما تأريخ الأدب إلى عصور وترجمة شعراء كل عصر وناثريه وميزة أدب كل عصر وخصائصه فشيء لم يكن معروًفا في مصر، حتى أتى الأستاذ حسن توفيق العدل، وقد تعلم في ألمانيا، فأدخل هذا العلم على هذا النمط في مدرسة دار العلوم إذ كان أستاًذا فيها، مسترشداً بما كتبه الألمان في تدريس أدبهم.

وجمهرة ثالثة من المدنيين — إن صح هذا التعبير — منهم طائفة من كبار القضاء الأهلي،٤ يعلموننا مقدمة القوانين، أو كما يسمونها اليوم المدخل إلى القانون، ونظام المحاكم واختصاصاتها إلى غير ذلك، فيقربون أذهاننا إلى القضاء الأهلي، ويقربون الفقه الإسلامي إلى القانون الوضعي، وأصول الفقه، إلى أصول القوانين.

وهذا أحمد فهمي العمروسي بك، وهو الذي تعلم في مصر وتعلم في سانكلو بفرنسا يدرس لنا الطبيعة، فيشرح لنا النظرية ويطبقها في المعمل ويجعلنا نجرب التجارب، ولا يضع في يدنا كتاباً، بل يكلفنا أن نكتب ما فهمنا وأن نرسم الأدوات التي استخدمناها، وهي طريقة كانت شاقة علينا، ولكنها كانت مفيدة لنا — ويخرج من الدرس كثيراً إلى نقد طريقتنا في التعليم وطريقتنا في الحياة ويقارن في ذلك كله بين مصر وفرنسا. ويرى أن الكلام في هذه الأمور أكثر فائدة من الكلام في الطبيعة والكيمياء، فالكلام فيهما كالخبز الجاف لابد أن يجعل سائغاً بالزبد والمربى.

وهذا علي بك فوزي الذي درس في مدرسة المعلمين وتخرج في معاهد إنجلترا، يدرس لنا التاريخ — تاريخ اليونان والرومان أحياًنا، وتاريخ أوروبا الحديث أحياًنا، والتاريخ الإسلامي أحياًنا، وهو رجل غريب بديع ظريف المظهر قصير القامة يخفي قصر قامته بطول طربوشه وعلو جزمته. يجيد الإنجليزية والفرنسية والفارسية والتركية. ويلتزم الكلام باللغة العربية الفصحى فلا يلحن، ويدخل علينا متأبطاً كتباً في جانبيه لعلها تزن أكثر منه، ولا يدع الفراش يحملها له، ويفتح هذا الكتاب بالفرنسية ويملي علينا باللغة العربية بأسلوب جميل فصيح، ويخرج أحياًنا عن الدرس إلى آرائه في الحياة وفلسفته في المقارنة بين المدنية الشرقية والمدنية الغربية.

وهذا عاطف بك بركات يدخل علينا يوماً فيجد الشيخ حسن منصور يدرس لنا الأخلاق في كتاب أدب الدنيا والدين، فلا يعجبه ذلك، ويتولى تدريس هذه المادة بنفسه من الكتب الإنجليزية، فيدرس لنا أحياًنا كتاب ماكنزي في علم الأخلاق، وأحياًنا كتاب مذهب المنفعة لجون ستيورات مل.

وقد أخذت من هذه المكافآت كل سنة ما يقرب من ٢٥ جنيهاً كنت أتبحبح فيها في حياتي.

وزاد من تعبي ما أصبت به من الغيرة، وكنا اثنين في الفصل كفرسي رهان نتسابق في غير كلل، وكان٥ خيراً مني في العلوم الأزهرية وأنا خير منه في العلوم العصرية،

لا أذكر أني رفهت عن نفسي إلا أياماً كنت أخرج إلى كوبري قصر النيل حتى إذا توسطته وقفت زمًنا أستنشق هواءه وأستمتع بمنظره، ثم أسير إلى آخره فأميل ذات اليمين وأمشي بين الأشجار والنخيل والنهر حتى أصل إلى مسجد هناك أصلي فيه المغرب أو العشاء ثم أعود من حيث أتيت.

وأحياًنا في ليلة الجمعة كنت أغشى منزل صديقي الشيخ مصطفى عبد الرازق

وترى إذ ذاك آراء المحافظين تناطح آراء الأحرار المتمدنين، ومؤيدي السفور ينازعون مؤيدي الحجاب، والوطنيين يثورون على الرجعيين، وهكذا من سمر لذيذ يمتد إلى منتصف الليل فتكون من ذلك متعة عقلية وروحية لطيفة.

ومرتين أو ثلاثا جمعت كل قواي، وحفزت كل همتي وقاومت كل خجلي، فذهبت إلى استماع الغناء في صالة تسمى «ألف ليلة» بالأزبكية من مغنية اسمها «الست توحيدة»، واتخذت كل الوسائل للاختفاء، لأن من رُئي وعلمت به المدرسة كان عرضة للتأنيب والعقاب — هذا كان كل ترفيهي، أما ما بقي من وقتي فللدراسة وللمدرسة.

وكان موضوع الجدل غريباً حًقا ظريًفا حًقا: هل من الخير لمصر أن تتوسع في التعليم الأولي فتنشئ الكتاتيب، أو تؤسس التعليم العالي فتنشئ الجامعة، كأنهما ضدان لا يمكن الجمع بينهما؟ ولكنها السياسة الإنجليزية، أرادت أن تصرف الأنظار عن التعليم الجامعي لأنه يخرج قادة الرأي في الأمة، فابتدعت فكرة التعليم الأولي وأولويته، وظلت المناقشة طويلا، وكان اللورد كرومر يؤيد التعليم الأولى ويعارض في إنشاء الجامعة

ثم نمت الجامعة واستدعي لها بعض كبار المستشرقين واختير لها بناء هو بناء الجامعة الأمريكية اليوم. فأعجبني من دروسها محاضرات يلقيها الأستاذ نللينو في تاريخ الفلك عند العرب، ومحاضرات في الفلسفة الإسلامية يلقيها الأستاذ سانتلانا، ومحاضرات في الجغرافيا العربية يلقيها الأستاذ جويدي

ولكن على كل حال رأيت لوًنا من ألوان التعليم لم أعرفه: استقصاء في البحث، وعمق في الدروس، وصبر على الرجوع إلى المراجع المختلفة، ومقارنة بين ما يقوله العرب ويقوله الإفرنج، واستنتاج هادئ ورزين من كل ذلك.

الفصل الرابع عشر

وكان لي صديق١ طالب في المدرسة يتصل بالشيخ علي يوسف صاحب «المؤيد» ويفسح له في جريدته حتى لينشر مقالاته فكتبت مقالا عنوانه «خطأ العقلاء» موضوعه نقد سعد باشا على تركه نظارة المعارف وتقلده نظارة الحقانية، لأن نظارة المعارف تحتاج إلى جهاد مع الإنجليز عنيف في وضع أسس جديدة للتعليم، وقد بدأ في وضع هذه الأسس فمن الخطأ ألا يتمها، وأن ينتقل إلى نظارة وضعت أسسها ولا جديد فيها إلا السير وفًقا للتقاليد المعروفة

ففي الشهر الأول من دخولي المدرسة طلب إلينا أستاذ الأدب أن نكتب في موضوع «أثر القرآن الكريم في تدوين العلوم» وصادفني التوفيق في كتابة هذا الموضوع كما صادفني أن وقعت ورقتي في يد عاطف بك بركات فاستحسنه — وكان لا يعجبه العجب

أقيم سنة ١٩١٠ احتفال في المدرسة لعيد رأس السنة الهجرية، وعهدت إلي لجنة الاحتفال اختيار موضوع، فاخترت «أسباب ضعف المسلمين» وبنيت محاضرتي على أن أسباب ضعفهم ترجع إلى شيئين رئيسين: الأول فساد نظام الحكم في البلاد الإسلامية وما جره ذلك من ظلم للرعية وعسف بحريتها، واستغلال الحكام لمالها وتسخيرهم قواها لملاذهم الشخصية، والثاني رجال الدين فقد شايعوا الحكومات الظالمة وأيدوها، وتآمروا معها وبثوا في نفوس الشعب الرضا بالقضاء والقدر والاعتماد على نعيم الآخرة إذ حرموا نعيم الدنيا — كل هذا أضعف من نفوس المسلمين وأذلهم وأنهك قواهم، ولا أمل في صلاحهم إلا بصلاح رجال الحكومة ورجال الدين إلخ.

فلما أتممت الخطبة دوي المكان بالتصفيق، ولكن راعني أن استدعاني عاطف بك إلى جانبه، وقال لي: هل جننت؟ أمثل هذا يقال؟ وطلب مني المحاضرة فسلمتها إليه ورأيته يسر إلى الشيخ الخضري كلاماً، فيقوم يعقب علي ويقول إن المحاضر — بالطبع — يقصد الحكومات الماضية ورجال الدين الماضيين، أما الحكومة الحاضرة فلا مأخذ عليها، وهي العادلة الحازمة، وهي التي رعت مدرسة القضاء وأنفقت عليها وعلمت طلبتها وغمرتهم بالخيرات، وأما رجال الدين اليوم فمثال للنزاهة والطهر والرقي.

وكان عاطف بك معذوراً؛ فالمدرسة يحاربها الخديوي ويتربص بها الدوائر ويدس لها الدسائس، ورجال الأزهر لها كارهون، وإنما تعتمد المدرسة على الحكومة ورضا الإنجليز عنها، فإذا غضبت الحكومة وغضبوا هم أيضاً عليها لم يكن لها سند من أحد وقد كان الكلام في السياسة وما حولها في المدارس جميعها جريمة كبرى، حتى كان الكتاب لا يقرر في مدرسة من مدارس وزارة المعارف إلا بعد إقرار من المفتشين بأنه خال من السياسة، والمختارات من الشعر لا تعطي للتلاميذ حتى يقرها التفتيش، وهو لا يقرها إلا إذا خلت من السياسة بأوسع معانيها

حتى ليرووا أن مدرسة اقترحت كتباً لمكتبتها وكان من بينها المصحف الشريف فاحتيج أيضاً إلى إقرار بأنه ليس فيه سياسة

وكان شعوري الديني، وأنا طالب بمدرسة القضاء لا يزال قوياً كشعوري الوطني بل أقوى منه، حتى كان طلبة فصلي يسمونني «السني»، بينما يسمون غيري الفيلسوف أو الزنديق.

وأذكر مرة أن أحد أساتذتي كان ينكر معجزة نبع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم فحاججته، ثم انقلب الجدال إلى حدة مني فاحمر وجهي وغضبت على أستاذي غضباً شديداً، فتقبل غضبي بالحلم والابتسامة الهادئة

طلبت منه أن يعلمني طريقة الصوفية؛ ويقبلني «مريداً» فوعد أن يكون ذلك يوم الجمعة في قبة الإمام الشافعي. وذهبت إلى هناك وانتحينا ناحية وجلسنا وقرأ علي العهد وتابعته ثم أعطاني الدرس الأول في الطريقة.

ولم يمض الأسبوع الأول من دخولنا المدرسة حتى تكشفت أخلاقنا وعرف بعضنا بعضا، وتبينت مواقع القوة ومواضع الضعف في كل منا سواء من الناحية الخلقية أو العقلية. فاستغل الأقوياء الضعفاء كما هو الشأن في الوجود، واتخذ بعضهم بعضاً سخرياً. لعب الماكر الماهر بالأبله الساذج لعب القراد بالقرود، ووقفوا لهم بالمرصاد يحصون غلطاتهم ويؤولون تصرفاتهم بما يستخرج الضحك من أعماق القلب.

ولا أنسى يوماً أخرج من مدرسة القضاء، فأرى الباشا الكبير يقف أمام محطة الترام ينتظر مجيئه لركوبه بعد أن كانت عربات الترام الكثيرة تنتظر عربة أبنائه حتى تتحرك بهم إلى مدارسهم.

الفصل الخامس عشر

أما أنا وبيتي فقد كان بيتي هادئًا مطمئًنا سعيداً سعادة سلبية، وأعني بالسعادة السلبية السعادة الخالية من الآلام. أما السعادة الإيجابية من فرح ومرح وضحك ونحو ذلك فقد كان بيتنا خالياً منها تقريباً، لإفراط أبي في جده وحبه للعزلة وعكوفه على القراءة أكثر وقته.

ورجعت فوجدت البيت واجماً، ووجدت أخي هذا قد بسط له فراش في وسط الغرفة وهو لا يكاد يعي من ارتفاع حرارته، ومن حين لآخر يتألم ويتأوه، وكل من في البيت خائف مرتعب — ذهبت من فوري إلى الطبيب واستدعيته فحضر وفحصه فحصاً طويلا ثم هز رأسه، ونزلت معه أستفسر عن الحال، فقال إنها الحمى التيفودية والحالة خطيرة، ولا تمكن العناية به في مثل هذه الحالة إلا إذا نقل إلى مستشفى الحميات، ووصف الدواء وطريقة العلاج وانصرف

ورجعت إلى أمي وأبي في خوف وقلق أشير عليهما بنقله إلى المستشفى فرفضا، فالمستشفى كلمة مرعبة مقرون اسمها في ذهنهما وفي ذهن الشعب كله بالموت، وهم لا يسمونه بالمستشفى كما نسميه، ولكن يسمونه «الأشلاء»، وحاولت طويلا أن أفهمهما المستشفى ومزاياه وشدة عنايته بالمرضى واشتد منا القلق وانقبضت نفسي انقباضاً شديداً حتى لأحسست أن روحي تكاد تخرج من بين جنبي، وأخرج من البيت ولا أدري أين أذهب، وأعود ولا أدري لم عدت، لم يغن الطبيب ولم يغن الدواء واشتد الحال سوءاً، وأخيراً وبعد كرب شديد لفظ نفسه الأخير

فأما أبي فقد صبر على حزن دفين، حتى أبى إلا أن يغسله بيده ويدفنه بيده، وكانت سلواه أن يكثر من تلاوة القرآن ويهب ما يقرؤه إلى روحه، وسمع بكتاب للسيوطي اسمه «فضل الجلد عند فقد الولد» فنسخه بيده، يتصبر بقراءته وكتابته

وأما أنا فقد وضع هذا الحادث على عيني منظاراً أسود، فلا أرى في الدنيا إلا السواد، ولا أحب أن أسمع من الأصوات إلا صوت البكاء، فالشجرة الناضرة إلى ذبول، والحياة المبتهجة إلى فناء، والحمامة إذا غنت فإنما تبكي، والسعيد إنما يسعد ليشقى. وانقلبت في عيني قيم الأشياء، فهذا الذي يكسب المال لم يكسبه؟ وهذا الذي يعمل لم يعمل؟ والناس مجانين إذا تخاصموا، ومجانين إذا لهوا أو ضحكوا، فالدنيا لا تزن جناح بعوضة، وخير للناس أن يقضوا حياتهم من غير اكتراث حتى يدركهم الموت

ومضت سنة وبضعة أشهر والحزن يتحول من نار مشتعلة إلى نار هادئة قد علاها بعض الرماد، وجاء رمضان وأنا في السنة الثالثة في مدرسة القضاء فنغر الجرح الذي لما يندمل، واشتعلت النار التي لم تنطفئ.

ففي ليلة من أواخر رمضان صلى أخي العشاء والتراويح كما كان يصلي، وعاد إلى البيت يقرأ القرآن كما كان يقرأ، وتناول سحوره، كما كان يتناول ثم نام ونمنا، وبعد قليل سمعنا صرخة قمنا لها مذعورين، وذهبنا إلى مصدر الصوت، فإذا هي زوجته تصرخ، وإذا هو ممدود على الأرض لا يعي، وتناديه فلا يسمع وتستجوبه فلا يجيب، وليس فيه إلا نفس يتردد، فحملناه إلى سريره وقضينا آخر الليل في رعب لا يوصف، وبكاء لا ينقطع، وحزن ذكر بحزن، فلما أصبح الصباح ذهبت إلى أكبر طبيب إفرنجي مشهور وسألته أن يذهب معي مبكراً، ورأى لوعتي فقبل رجائي، وحضر معي إلى البيت وكشف على المريض فلما تبعته أخبرني أنه انفجار في المخ نشأ عنه شلل في النصف الأيسر ووصف له الدواء فأحضرته، وقمت على علاجه أعنى بشأنه

ولكن ما لبث نحو شهرين حتى انتكس، وأصيب ثانية أشد مما أصيب أولا، واستحضرت له الطبيب نفسه فقلب كفيه يخبرني ألا أمل. وكانت النهاية، وكان الحزن شديداً وكانت المصيبة قاسية، وكانت النصال تتكسر على النصال، ولم يجد أبي وأمي من سلوى إلا أن يحجا ويقفا بعرفة ويزورا المدينة ويضعا أيديهما على ضريح النبي صلى الله عليه وسلم يسألان الرحمة للفقيدين والصبر للأبوين.

الفصل السادس عشر

ناظر مدرسة القضاء … وابتدع في المدرسة نظاماً لم يكن معروًفا في مصر؛ وهو نظام المعيدين، فأتبع كل معيد بأستاذ كبير يحضر معه الموضوع ويدخل معه في الدروس، ووزع المعيدين على الأساتذة بحسب كفايتهم وميولهم

واختارني معيداً معه في دروس الأخلاق … وكان يحضره من كتب الأخلاق الإنجليزية

وقد أثر في أثراً كبيراً من ناحية تحكيم العقل في الدين، فقد كنت إلى هذا العهد أحكم العواطف لا العقل، ولا أسمح لنفسي بالجدل العقلي في مثل هذه الموضوعات، فالدين فوق العقل، فإن جاء فيه ما لا يدركه العقل آمنا به، لأن علم الله فوق علمنا، وهو أعلم بما يصلحنا وما يضرنا، وهو يأبى إلا تحكيم العقل والبحث عما لا نفهم حتى نفهم،

كان من أثر هذا الجدل الديني أني أعملت عقلي في تفاصيل الدين وجزئياته، أما جوهر الدين من إيمان بالله وجلاله وعظيم قدرته فظل ساكنا في أعماق قلبي لم ينل منه أي جدل ولم يتأثر بأي قراءة، وكل ما في الأمر أني صرت أكثر تسامحاً مع المخالفين، وأوسع صدراً للمعارضين.

واتصلت بصديقي وأستاذي أحمد بك أمين. فقد درس لنا بعض المواد القانونية أيام كنت طالباً، فلما تخرجت انقلبت الأستاذية إلى صداقة، ففي إجازة من الإجازات الصيفية اتفقنا على أن نقرأ كتاباً في أصول الفقه ليقارن بينه وبين أصول القوانين في التشريع المدني.

حتى إن الكتاب المؤلف في علم منذ عشر سنوات لا يصلح أن يكون مرجعاً اليوم إلا بعد التعديل

ولأن هؤلاء الأساتذة كانوا يقولون دائماً إن من اقتصر على اللغة العربية يرى الدنيا بعين واحدة، فإذا عرف لغة أخرى رأى الدنيا بعينين.

لهذا فكرت أن أتعلم لغة أجنبية، وحرت بين الإنجليزية والفرنسية ثم فضلت الفرنسية اعتماداً على أني تعلمت مبادئها في صغري وأتممت دروسها إلى السنة الرابعة يوم كنت في مدرسة والدة عباس باشا،

ولست أنسى يوماً كان يحاضر فيه الأستاذ أحمد لطفي السيد، وكان يحضر الحفل عدد كبير من رجال السياسة منهم الشيخ علي يوسف وإبراهيم الهلباوي

فما نشعر إلا وقد أطار جماعة من طالبة الحقوق حماماً أعدوه معهم لهذا الوقت تنكيلا بإبراهيم الهلباوي إذ كان محامياً عن الإنجليز في حادثة دنشواي التي كان سببها الحمام

فتوكلت على الله وقبلت الوظيفة واستعددت للسفر إلى الواحات.

وكان موضوع حديثه المقارنة بين أقباط أسيوط ومسلميها، وأن الأقباط أكثر جداً في الحياة وسعيًا في طلب الرزق وحرصاً على ما يدخل في يدهم من مال وأكثر تعليماً لأولادهم، وأكثر قبولا للمدنية الحديثة، وأن المسلمين يجب أن يسيروا سيرهم ويعنوا بأمورهم وهم أولى بذلك.

مررت على مركز لشركة إنجليزية أنشئت لتستغل أرض الواحات، فرأيت إنجليزيين يقفان في الشمس يشرفان على العمال، فقلت في نفسي أيأتون من إنجلترا الباردة إلى الواحات المحرقة طمعاً في الكسب وأملا في النجاح، ويعيشون عيشة فرحة مستبشرة، وتأتي أنت من بلدة في مصر إلى بلدة أخرى في مصر ليس بينهما إلا أقل من يوم وتبكي؟ — خجلت من نفسي وتبين لي سبب من أسباب نجاحهم وإخفاقنا وغناهم وفقرنا. وعاهدت الله ألا أحزن بعد ذلك ولا أبكي.

وبعد أن استرحت فيه قليلا سمعت الباب يدق، فجاءني الخادم يقول إن أخا المأذون بالباب، فأذنت له، فدخل ووراءه غلام يحمل صحفتين في يديه، في إحداهما لحم نيئ، وفي الأخرى أرز غير مطبوخ. قلت: ما هذا؟ قال هي هدية من أخي المأذون، فاعتذرت في رفق. فأخذ يتلو علي الأحاديث الكثيرة في فضل الهدية وقبولها، فاضطررت أن أعتذر في عنف، وبعد ساعة أو ساعتين دق الباب ثانية، فإذا بخادم العمدة يحمل معه عشر برتقالات، وهي في نظرهم هدية ثمينة، لأن زمن البرتقال قد انقضى من الواحات وأصبح فيها تحفة ثمينة، فاعتذرت أيضاً.

ولفت نظري طفل كبير، أخذت لوحه فوجدته قد كتب فيه المعوذتين وبعدهما: «وقد تم طبع هذا المصحف الشريف في مطبعة كذا». وهو يحفظه على أنه من القرآن الكريم.

صليت الجمعة في مسجد البلدة، وأغرب ما سمعت أن الخطبة كلها كانت حثا على الزهد وتحذيراً من السفر إلى أوروبا لقضاء الصيف مع أن أهل الواحات زهاد بطبعهم لا يجدون ما يأكلون إلا بعد العناء، وما سمعوا قط باسم أوروبا إلا من الخطيب.

اليوم جلست أول مرة في مجلس القضاء فتهيبته؛ لأني مع دراستي الفقه بأكمله دراسة واسعة عميقة، وأصول الفقه بأكملها دراسة واسعة عميقة كذلك، ونظام القضاء والإدارة سواء في ذلك القضاء الشرعي والأهلي والمختلط، ونظام المرافعات وما إليها، وعرضت علينا نماذج كثيرة من القضايا وحيثياتها وأحكامها، وزرنا بعض المحاكم واستمعنا لبعض قضاياها، ودرسنا بعض القضايا العويصة ذات المبادئ؛ مع كل هذا تهيبت هذا المجلس وخجلت من نفسي

وكان موقًفا مخجلا حًقا يدل على أن العلم غير العمل.

بعض موظفي الحكومة هنا يتزوجون زواجاً يشبه زواج المتعة، فالموظف يختار فتاة يستجملها ويتزوج بها، فإذا حلت في عينه فتاة أخرى طلق الأولى وتزوج الثانية، وتبقى معه الزوجة إلى أن يصدر الأمر بنقله من الواحات فيطلقها ويرضيها بقليل من المال.

وقد عرض علي مثل هذا الزواج فأبيت لاعتقادي أنه مناف للمروءة وأنا قادر على ضبط نفسي ولله الحمد.

وأصحو قبل طلوع الشمس فأقرأ جزءاً من القرآن ثم أقرأ في بعض الكتب حتى يأتي ميعاد المحكمة وهكذا، والحياة يوم واحد متكرر

شاهدت أمس أوروبيا في الخارجة ومعه رجل من أهلها، وقد علمت أنه يأتي كل سنة للتجارة في نوع من النبات ينبت حول الخارجة وفي بعض جبالها واسمه «السكران» يجمعه له بعض الناس ويبيعونه له كل قنطار بعشرين قرشاً. وهو يصدره إلى الخارج لاستعماله في بعض الأدوية٢ والله أعلم بكم يبيع القنطار، وهكذا يستغفلنا الأجنبي دائماً، ونقنع بالربح القليل دائماً، ويعيش هو من مجهودنا في القصور الفخمة والثروة الضخمة.

عجبت للإسلام واللغة العربية وقوتهما وانتشارهما، فليس في الواحات إلا مسلم، وليس فيها إلا من يتكلم العربية وحدها.

وكانت أمتع رحلة من هذا القبيل رحلتي إلى باريس، وهي بلدة حقيرة تحمل اسما كبيرا، وبدائية بدوية تحمل اسم أكبر مدينة مدنية، ولا أدري كيف أطلق عليها هذا الاسم، وهي تبعد عن الخارجة نحو مائة وعشرين كيلو متراً.

ولست أنسى مرة ونحن في الطريق يوماً اشتد حره وجف هواؤه، وقد أكلنا أكلة ثقيلة لا تناسب السفر، ثم ركبنا واشتد بي العطش، وكلما شربت تقلقل الماء في بطني من هزة الهجين؛ ثم أعطش فأشرب، فلما مللت الشرب أخرجت ليمونة من جيبي وقطعتها، وأخذت أمصها من حين إلى آخر، فما هو إلا أن رأيتني وقد انقبضت حنجرتي ولم أستطع أن آخذ نفسي من فعل الليمون مع جفاف الهواء، فالتفت إلى الطبيب أستنجده بالإشارة، فأسرع إلى الزمزمية وصب الماء في حلقي.. ولو تأخر ذلك بضع ثوان لهلكت، ولكن الله سلم!

وفي قومها كرم عربي ولهجة عربية جميلة، كنت أتلذذ من سماعها وخصوصا من النساء اللائي كن يترافعن إلي في شكوى أزواجهن، ورأيت أهلها في نزاع طويل شديد، حتى علمت أنهم في السنة الماضية لم يزرعوا أرضهم عناداً فيما بينهم. ورأيت بها آثارا قيمة زرتها وأعجبت بها.

وفي عودتي من باريس رأيت السراب وما كنت رأيته، كنت أرى بحراً متسعاً زرعت عليه أشجار، ولا بحر ولا أشجار. ولاتساع الصحراء وتلاعب الرياح فيها كنت أتخيل أحياًنا أن أحداً وراءنا يجري ويتكلم، ثم ألتفت فلا أرى شيئًا، فظننت أن هذا هو ما كانت تزعم العرب أن الجن حدثتها أو هتفت بها.

أما الأمر الثاني الذي كنت أقضي فيه وقتي فمطالعة الكتب. ومن أحسن ما قرأت في هذه الفترة كتب ثلاثة مختلفة الأنواع والألوان، كتاب تاريخ الفلك عن العرب للأستاذ نللينو، قرأته بإمعان واستفدت منه كيف يبحث كبار المستشرقين، وكيف يصبرون على البحث، وكيف يعيشون في المادة التي تخصصوا فيها، وكيف يسيرون في بحثهم من البسيط إلى المركب في حذر وأناة فإذا قلت إنني استفدت منهج البحث من هذا الكتاب لم أبعد عن الصواب.

وأما الكتاب الثالث ففي الأدب وهو ديوان الحماسة وشرحه.

الفصل السابع عشر

وأحسست ثانية حاجتي الشديدة إلى لغة أجنبية

وقد أخفقت في تعلم الفرنسية، فلأجرب حظي في الإنجليزية.

ويوماً قابلت صديقي أحمد بك أمين، وجلسنا في مقهى، وذهب الحديث فنوًنا إلى أن وجدته يقول إنه عثر على كتاب إنجليزي قيم لمستشرق أمريكي اسمه مكدونالد١ وإنه قسم كتابه إلى ثلاثة أقسام: قسم يتعلق بنظام الحكم في الإسلام، وقسم في تاريخ الفقه الإسلامي، وقسم في المذاهب والعقائد الإسلامية. وأخذ يطري الكتاب ويحكي بعض آرائه، فاستفزني الموضوع وقلت: هل تستطيع الآن أن تذهب معي إلى مدرسة (برليتز) لأرتب دروساً لي في الإنكليزية؟ فقبل، وأقسمت أن أتعلم وأن أقرأ هذا الكتاب في لغته، وذهبنا إلى المدرسة ورتبنا دروساً ثلاثة في الأسبوع بمائة وخمسين قرشاً كل شهر.

ووقفت إلى سيدة إنجليزية كان لها أثر عظيم في عقلي ونفسي.

مس بور (Power) سيدة في نحو الخامسة والخمسين من عمرها

مثقفة ثقافة واسعة، تجيد الإنجليزية والفرنسية والألمانية، ذات رأي تعتد به جريدة التيمس فترحب بمقالاتها، عرفت الدنيا من الكتب ومن الواقع، أقامت في فرنسا سنين وفي ألمانيا سنين وفي أمريكا سنين فكملت تجاربها واتسع أفقها

ثم هي رسامة فنانة، تأخذ أدواتها إلى سفح الهرم فترسم الصور الزيتية لمنظر الأهرام والفيضان وما يحيط بهما من منظر جميل أو نحو ذلك من مناظر طبيعية جميلة ترسمها بالزيت وتتأنق فيها

ثم هي تقبل أن تدرس لي درساً في اللغة الإنجليزية بجنيهين كل شهر، ولا تعاملني معاملة مدرسة لتلميذ، بل معاملة أم قوية لابن فيه عيوب من تربية عتيقة.

وتوثقت الصلة بيننا فكأنني من أسرتها، وهي لا تعنى بي من ناحية اللغة الإنجليزية وآدابها فحسب، بل هي تشرف على سلوكي وأخلاقي. لاحظت في عيبين كبيرين فعملت على إصلاحهما، ووضعت لي مبدأين تكررهما علي في كل مناسبة.

ورأتني مكتئب النفس منقبض الصدر ينطوي قلبي على حزن عميق، ورأتني لا أبتهج بالحياة ولا ينفتح صدري للسرور، فوضعت لي مبدأ هو: «تذكر أنك شاب» تقوله لي في كل مناسبة وتذكرني به من حين إلى حين.

لازمتها أربع سنوات، استفدت فيها كثيرا من عقلها وفنها ولكني لا أظن أنني استفدت كثيراً من تكرارها على سمعي أن أتذكر دائماً أني شاب.

وفي آخر المرحلة قرأت معها فصولا كثيرة من جمهورية أفلاطون بالإنجليزية، فكان هذا الكتاب مظهر سعة عقلها وكثرة تجاربها

وفي هذه الفترة التي كنت أدرس فيها مع «مس بور» جاءني صديق وقال إنه يعرف أسرة إنجليزية تتكون من زوج وزوجة يريدان أن يتعلما العربية وأنا أعلم الزوج فهل لك أن تعلم الزوجة؟ قلت: لا أعلمها بمال ولكن أتبادل معها، فأعلمها العربية وتعلمني الإنجليزية، وعرض عليها ذلك فرضيت.

وكنت أرتقب موعد هذا الدرس بشوق ولهفة، وكانت هذه السيدة تغذ عواطفي برقتها وجمالها وكمالها، كما كانت «مس بور» تغذي عقلي بثقافتها واطلاعها وتجاربها.

ماذا كنت أكون لو لم أجتز هذه المرحلة؟ لقد كنت ذا عين واحدة فأصبحت ذا عينين، وكنت أعيش في الماضي فصرت أعيش في الماضي والحاضر، وكنت آكل صنًفا واحداً من مائدة واحدة فصرت آكل من أصناف متعددة على موائد مختلفة، وكنت أرى الأشياء ذات لون واحد وطعم واحد، فلما وضعت بجانبها ألوان أخرى وطعوم أخرى تفتحت العين للمقارنة وتفتح العقل للنقد، لو لم أجتز هذه المرحلة ثم كنت أديباً لكنت أديباً رجعياً، يعنى بتزويق اللفظ لا جودة المعنى، ويعتمد على أدب الأقدمين دون أدب المحدثين، ويلتفت في تفكيره إلى الأولين دون الآخرين

الفصل الثامن عشر

وكان بعضهم من القسم العلمي وبعضهم من القسم الأدبي،١ شاءت الظروف السعيدة أن أتعرف بهم وأن أصادقهم، رأيتهم مثقفين من غير جنس ثقافتي، ثقافتهم عصرية بحتة، وثقافتي شرعية كثيراً وعصرية قليلا، منهم الذي بلغ درجة جيدة في الجغرافيا والتاريخ العام والأدب الإنجليزي، ومنهم من بلغ هذه الدرجة في الرياضة والطبيعة والكيمياء، وكلهم يعرف من الدنيا الجديدة والمدنية الحديثة أكثر مما أعرف

وكان يقول إن الاستماع إلى الحديث فن كفن الإلقاء، من الناس من يجيده ومنهم من لا يجيده، وإنما يجيده السامع إذا تجاوب مع القائل في شعوره وعواطفه وانفعالاته، يضحك للحديث المضحك ويبكي للحديث الباكي وتظهر على أسارير وجهه كل هذه الاستجابات.

وهذا الآخر هوايته التاريخ،

وينقد كتابة التاريخ عند العرب، فقد أحسنوا في رواية الأحداث ولم يحسنوا فلسفتها إلا ما كان من ابن خلدون فقد أحسن في فلسفة التاريخ وقصر في تطبيقها على الأحداث

وهذا عالم تخصص في الطبيعة والكيمياء وجعل مسلاته الأدب،

قد حفظ القرآن وأطال قراءته وبذل جهداً في فهمه، فهو يفهمه كما يقول المفسرون ويزيد عليهم ما يفهمه من نظريات الطبيعيين والكيماويين وما يقتبسه من أقوال المتدينين من العلماء الأوروبيين، يحلو له الكلام في الدين وهداية الضالين، ويعز عليه أن يسمع إلحاداً أو كلمة يشتم منها إلحاد بل لا يسمح أن ينقد أحد أمراً من أمور الدين، ولو كان في التفاصيل

وقد كنت أول الأمر ألهث إذا جريت، وأخفق إذا لعبت، ثم استقام أمري، وإن لم أبلغ في خفة الحركة مبلغ صحبي، لأني أحمل من أوزار تربيتي الأولى ما لا يحملون. فإذا فرغنا من ذلك كله ذهبنا إلى خزائننا وخلعت «الشورت» ولبست الجبة والقفطان والعمامة وخرجت من النادي شيخاً وقوراً.

ودخلت حلوان على حمار وحولي الحواريون يمتزج شعورهم نحوي بالضحك مني والرثاء لي.

وتحررت بعض الشيء، فكنا نذهب أحياًنا إلى صالة «منيرة المهدية» لسماع غنائها ومشاهدة رواياتها، وكنت أتأثر من بعض نغماتها أثراً يرن في أذني طول الأسبوع.

فإذا أحب بعضهم أن يذهبوا إلى أكثر من ذلك تواصوا فيما بينهم ألا يخبروني؛ لأني لا أصلح لمثل موقفهم.

على كل حال كانت هذه اللجنة نتيجة لصداقة هؤلاء الأصحاب الذين ذكرت بعض صفاتهم. وحظيت بصداقتهم.

وبهؤلاء الصحاب أحسست أني أقرب من عقليتهم ومزاجهم وثقافتهم شيئًا فشيئًا، وأبتعد عن عقلية زملائي الأقدمين ومزاجهم شيئًا فشيئًا، ورأيتني — بفضل ما شوقوني من كتب — أكون لنفسي نواة من الكتب الإنجليزية بجانب الكتب العربية، وأحضر دروسي منها في الأخلاق والمنطق، وأملأ الفراغ بالمطالعة في هذه وتلك، وإذا العين تنفتح والأفق يتسع.

الفصل التاسع عشر

ومن طول ما مارس السوق كانت عنده فراسة قوية في المشترين، شاهدته مرة وقد جاء شيخ يسأل عن كتاب فقال له ليس عندي والكتاب أمامه، فعاتبته في ذلك فعدا خلف الشيخ فناداه وعرض عليه الكتاب، فأخذ الشيخ يماكس ويمارس ويطيل المماكسة، ثم انصرف من غير أن يشتريه، فالتفت إلي وقال: صَدَّقت؟

وهو مشهور بين زملائه بالزندقة، لأنه لا يعترف بالأولياء ولا بالأضرحة ولا بزيارة القبور ونحو ذلك، ثم هو لا يكتم عقيدته في نفسه، بل يكررها في كل مناسبة؛ ركب مرة قطاراً من مصر إلى الإسكندرية، وجلس مع جماعة في صالون فلما وصل القطار إلى طنطا قال أحد الحاضرين: الفاتحة للسيد البدوي، فصاح هذا الكتبي: ومن يكون السيد البدوي وما كراماته وما قيمته! وطال لسانه فقام عليه الحاضرون وأوسعوه ضرباً. ولم ينج منهم إلا بعد عناء.

وقد كونت منها نواة لمكتبتي الإنجليزية، وأكثر ما اشتريت منها كتب في علم الأخلاق لأستعين بها على تحضير دروسي

وكتب في المنطق لأني أردت أن أعرف كيف يكتب الإفرنجي في المنطق بعد أن عرفت كيف يكتب العرب، وكتب في الإسلاميات مما كتبه المستشرقون لأن هذا موضوعي.

وأعددت محاضرتين فيهما ألقيتهما على طلبة مدرسة القضاء وبعض أساتذتها وبحضور ناظرها وكانت إحدى المحاضرتين في معنى مذهب النشوء وما يرمي إليه، والثانية في تطبيق نظرية النشوء على الأخلاق، كما اتجه إلى ذلك سبنسر وغيره، وأحدثت هاتان المحاضرتان دوياً: كيف يلقى مثل هذا الموضوع على طلبة القضاء الشرعي؟ وكان من نتيجته أن أرسل شيخ الجامع الأزهر٢ إلى ناظر المدرسة يسأله. كيف أباح لمدرس في المدرسة أن يلقي محاضرات في مذهب الزنديق دارون! فأهمل الناظر السؤال ولم يرد عليه.

على كل حال بدأت أحضر دروسي من الكتب العربية والإنجليزية معاً، فأعددت محاضرات عامة في تاريخ علم الأخلاق عند اليونان والرومان والعرب وفي العصور الحديثة استقيت أكثر موادها من الكتب الإنجليزية.

وشغفت أياماً بنظرية النشوء والارتقاء لدارون، فقرأت فيها كتب شبلي شميل بالعربية، وبعض الكتب الإنجليزية التي تعرض للموضوع عرضاً مبسطاً.

الفصل العشرون

وإذا كانت الجمعية الأولى تغلب عليها المحافظة والاعتدال فهذه يغلب عليها التحرر والثورة على القديم — كنا نجلس في هذه الجمعية، وقد يحضر فيها أحياًنا بعض السيدات الفرنسيات زوجات بعض المصريين، وبعض العلماء من الأزهر، ويتشقق الموضوع ويثار الجدل، ويكون الحديث مزاجاً بين حرية فرنسية واعتدال إنجليزي ومحافظة أزهرية، نتحدث في السياسة وحرية المرأة، وفي المقارنة بين فرنسا ومصر.

أما صاحبنا هذا فكان شجاعاً جريئا في كل ما يقول ويعمل، تزوج فتاة مصرية، وإذ كان يعتقد السفور حملها على السفور فأطاعته، في وقت عز فيه السفور، وعلا الصوت في نقده ومقته، فكان يخرج بها في المجتمعات ويزور معها الأصدقاء، ويجلس هو وهي في مقهى ولا يعبأ بنقد الناقدين ولا عيب العائبين، وكان وكيل نيابة في أسيوط وأسيوط بلد محافظ، فعابوا عليه تصرفه وشكوه للحقانية فلفتت نظره فصمم على عمله فنقل إلى الإسكندرية ولم يتحول عن طريقته.

كنا نجلس يوماً مع نخبة من هذه الجماعة وكان أحدها يصدر جريدة اسمها «السفور»٢ يدافع فيها عن رأي قاسم أمين ويدعو إليه، فدعانا أن نأخذ الجريدة ونساهم معه في إخراجها ونتولى تحريرها فقبلنا هذا العرض، وتألفت لجنة من الجمعيتين٣ جمعيتي الأولي المثقفة ثقافة إنجليزية وجمعيتي الثانية المثقفة ثقافة فرنسية، وتسلمنا الجريدة نحررها،

وجال الموضوع في ذهني في قوة ووجدتني قد بلغت التاسعة والعشرين، فصممت أن أبت في الموضوع هل أتزوج أو لا أتزوج، وأخيراً وبعد تردد طويل قررت أن أتزوج، ولكن نشأت العقدة الثانية: من أتزوج؟ وكان السفور في هذا الزمن في أول أمره لم يجرؤ عليه إلا عدد محدود من المثقفات

وكنت أتلمس الزواج في أمثالي من الأوساط. لا أطلب الغنى ولا أطلب الجاه، ومع ذلك كله وقفت العمامة حجر عثرة في الطريق، فكم تقدمت إلى بيوت رضوا عن شبابي ورضوا عن شهادتي ورضوا عن مرتبي، ولكن لم يرضوا عن عمامتي، فذو العمامة في نظرهم رجل متدين، والتدين في نظرهم يوحي بالتزمت وقلة التمدن والالتصاق بالرجعية والحرص على المال ونحو ذلك من معان منفرة، والفتاة يسرها الشاب المتمدن اللبق المساير للدنيا اللاهي الضاحك، فكم قيل لي أن ليس عندهم مكان لعمامة.

ورضي بي قوم أولا وأحبوا أن يروني، فأحببت أن أريهم أني متمدن، وذهبت إليهم أحمل كتاباً إنجليزيا، وجلست إليهم وجلسوا إلي وتحدثت عصرياً على آخر طراز وحشرت في كلامي بعض كلمات إنجليزية فاستغربوا لذلك. وفهمت أنهم أعجبوا بي ورضوا عني، ولكن بلغني أن الفتاة أطلت على من الشباك وأنا خارج فرأت العمامة والجبة والقفطان فرعبت ورفضت رفضاً باًتا أن تتزوجني رغم إلحاح أهلها.

وأخيراً سلمت الأمر لله وتركت التصوير حتى ترى العين ما رسم الخيال، وتم عقد الزواج يوم ٣ إبريل سنة ١٩١٦، وقد أخذت يوم العقد مائة جنيه إنجليزي ذهباً في علبة جميلة قدمتها مهراً للزوجة، وانتظرت نحو أربعة أشهر حتى يتم أهل الزوجة الجهاز.

وكانت هذه الأشهر الأربعة مجال تفكير في السعادة المرجوة والأحلام اللذيذة، وبناء القصور على الآراء الفلسفية أو النظريات المدونة في الكتب، فأنا أزور المكتبة الإنجليزية وأبحث عما كتب في الزواج، فأعثر — مثلا — على سلسلة من الكتب أحدها فيما ينبغي للزوج أن يعلم، وثانيها فيما ينبغي للزوجة أن تعلم وهكذا. ثم أجد كتاباً في الزواج السعيد وآخر في الأسرة، وثالًثا في تربية الطفل فأقرؤها وأفكر فيها وأستخلص منها ما يجب أن أعمل لأسعد وعلى أي الأسس أبني أسرتي وهكذا.

وأنا أرجو من الله أن يعينني على القيام بعمل عظيم أخدم به أمتي من الناحية الخلقية والاجتماعية

ثم أحببت المدرسة الإنجليزية الشابة حباً ضنيت به ولم تشعر به، وكل ما سعدت به ساعات الدرس أتحدث إليها وتتحدث إلي وتنظر إلي بعينيها الصافيتين الأمينتين، ولكنه كان حبا يائساً، فهي متزوجة مخلصة لزوجها سعيدة بزواجها، فعاطفة الحب كانت في أعماق نفسي ولكنها مكبوتة

وكانت تربيتي الدينية تعد الحب فجوراً والنظر إلى الفتاة وحديثها إغواء شيطانيا،

وحدث مرة أن شوهد متخرج حديًثا من المدرسة يجلس في مقهى الأزبكية مع صاحبيه من غير المدرسة وأمامهم كاسات من البيرة، فكان من سوء الحظ أن مر عليهم عاطف بك ورأى هذا المنظر، ومع أنه لم يتحقق من شرب هذا الشاب البيرة فقد حرمه من تولي القضاء سنين، ورفض كل رجاء في العفو عنه، ولم يعين بعد إلا بضغط عليه شديد أو رغماً عنه.

الفصل الحادي والعشرون

ولكن شتان بين الواقع والخيال؛ فالخيال يرسم الصورة وهو حر طليق محلق في السماء، والواقع يلتصق بالأرض ويتقيد بالظروف والبيئة والمكان والزمان وغير ذلك

ولم أستطع التحول عن طبعي وغرامي، ثم حلت المشكلة بعض الشيء بالولد الأول واشتغال أمه به ثم بما تتابع من أولاد، ثم باضطرارها إلى قبول الأمر الواقع والرضا بما قدر الله من عيش في شبه عزلة مما أقرأ وأكتب.

وكانت نظريتي في الأولاد تخالف نظريتها، فكان من رأيي الاقتصار على ولد أو ولدين، شعوراً بمسئولية التربية وتوفيراً للزمن الذي أحتاجه في التحصيل والدرس، وتمشياً مع النظرة التي أراها وهي أن الأمة المصرية مكتظة بالسكان وأن كثرتهم تحول دون العناية بتغذيتهم تغذية صحيحة، فلو قل عدد الأسرة كانت أقدر على أن ترفع مستواها في أمور الاقتصاد والتربية

ولكن زوجتي لا ترى هذا الرأي، وقد نصحتها بعض قريباتها بالمثل المشهور وهو «قصيه لئلا يطير» فالطائر إذا نزع ريشه أو قص لا يطير، والزوج إذا خف حمله لقلة الأولاد كان عرضة أن يطير ويتزوج ثانية وثالثة، وقد غلبت نظريتها نظريتي

ولم تعبأ بالمتاعب التي كانت تلاقيها في الولادة والتربية، فرزقت بعشرة أولاد — ولله الحمد — مات منهم اثنان في طفولتهما، وبقي لي ثمانية أسأل الله أن يمد في عمرهم ويسعدني بهم، ستة أبناء وبنتان.

وإني لأعجب لنفسي ويعجب لي غيري كيف استطعت أن أؤلف ما ألفت وأكتب ما كتبت وأقرأ ما قرأت مع ما تتطلبه تربية الأولاد من جهود لا نهاية لها. ويرجع الفضل في ذلك إلى الأم وحملها عني الأعباء التي تستطيع القيام بها، واكتفائي بالإشراف على تربيتهم العلمية والخلقية، ثم تقصيري في إطالة الجلوس معهم ومسامرتهم وإطالة عزلتي على مكتبي.

على كل حال بعد أن عرفت زوجي أخلاقي وعرفت أخلاقها وتكشفت لها ميولي وتكشف لي ميولها، حدثت المصالحة والتفاهم فتنازلت عن بعض رغباتها لرغباتي، وتنازلت عن بعض رغباتي لرغباتها، فكانت عيشة هادئة سعيدة نرعى فيها أكثر ما نرعى مصلحة الأولاد وخلق الجو الصالح لتربيتهم.

والثاني مشكلة وسائل التفاهم، فقد كنت من غفلتي أعتقد أن العقل هو وحده الوسيلة الطبيعية للتفاهم، فإن حدثت مشكلة احتكمنا إليه وأدلى كل منا بحججه فإما أقتنع وإما أقنع وإما أصر، وإما أعدل ولكني بعد تجارب طويلة رأيت أن العقل أسخف وسيلة للتفاهم مع أكثر من رأيت من السيدات؛ فأنت تتكلم في الشرق وهن يتكلمن في الغرب. وأنت تتكلم في السماء فيتكلمن في الأرض، وأنت تأتي بالحجج التي تعتقد أنها تقنع أي معاند، وتلزم أي مخاصم، فإذا هي ولا قيمة لها عندهن.

وإلى جانب ذلك فأنا رجل ليس لي كيف من الكيوف إلا الدخان، ثم معتدل الإنفاق، وأنا أميل إلى التبذير وزوجي أميل إلى التدبير، ولو ترك الأمر لي ما أبقيت على شيء، ولكن زوجي لكثرة الأولاد، وما يتطلبه ذلك من حساب المستقبل، احتاطت ودبرت وادخرت.

ورزقت بالولد الأول عقب زواجي، فأوليته كل عنايتي وطالعت من أجله بعض الكتب الإنجليزية والعربية في تربية الطفل، وكنت أشتري له اللعب الأجنبية الموضوعة للتسلية وتربية العقل، ولم أرتض له المدارس المصرية، فعلمته في المدارس الفرنسية — في الفرير — ثم حولته بعد السنة الثالثة الثانوية إلى مدرسة مصرية ليتقوى في اللغة العربية والإنجليزية، فلما نجح في البكالوريا، وكان ترتيبه متقدماً يسمح له أن يكون في الطب أو الهندسة، اختار الهندسة.

وما أكثر ما لقيت من متاعب الأولاد في صحتهم وفي دراستهم وفي سلوكهم، وكان لكل سن متاعبها، فأكثر متاعب الطفولة في الصحة والمرض، وأكثر متاعب المراهقة في الدراسة والسلوك، وأكثر متاعب الشباب في طرق الوقاية والمهارة في الإشراف من بعيد، وكثيرا ما كان عندي الأسنان كلها أحمل متاعبها المتنوعة جميعها.

وكان حنوي وحنو أمهم عليهم بالغ الحد، حتى لكثيراً ما ضحينا بسعادتنا لسعادتهم، وتعبنا لراحتهم، وأنفقنا من صحتنا محافظة على صحتهم، ونحن نطمع أن يتولى الله وحده الجزاء

ولكن الموقف النبيل يقضي بأن تربية الأولاد ليست تجارة، تعطي لتأخذ وتبيع لتربح، إنما هي واجب يؤديه الآباء لأبنائهم وأمتهم، فإن قدره الأبناء فأدوا واجبهم نحو آبائهم فبها، وإلا فقد فعل الآباء ما عليهم، والمكافئ الله.

الفصل الثاني والعشرون

جاءت الحرب العالمية الأولى ١٩١٤، وكانت أحداثها وقوداً لإلهاب الشعور الوطني، فخلع الخديوي عباس وأعلنت بريطانيا الحماية على مصر، فحز ذلك في نفوسنا، وولي الأمير حسين كامل سلطاًنا على مصر

فسأل: وباسم من تتكلمون؟ قلنا: باسم جماعة العقليين.

على كل حال انغمست في السياسة واشتركت في المظاهرات وبخاصة في المظاهرات التي ترمي إلى التقريب بين الأقباط والمسلمين، وكنت أتلمس المظاهرة، فأركب عربة وأنا بعمامتي أصطحب فيها قسيساً بملابسه الكهنوتية ونحمل علماً فيه الصليب والهلال ونحو ذلك من أعمال.

ولم أظهر في السياسة ظهورهم، لأسباب أهمها أني — على ما يظهر — لم أتشجع شجاعتهم، فكنت أخاف السجن وأخاف العقوبة.

وقد علمني أبي الإفراط في التفكير في العواقب ومن فكر في العواقب لم يتشجع.

وظللت أحكم بالطاعة وأنا لا أستسيغها ولا أتصورها، كيف تؤخذ المرأة من بيتها بالبوليس وتوضع في بيت الزوج بالبوليس كذلك؟ وكيف تكون هذه حياة زوجية؟

فإن استفدت شيئًا من عملي في هذا المنصب فدراسة اجتماعية عملية للأسر المصرية. وقد ظهرت على عهدي هذا ظاهرة جديدة لم تكن معروفة كثيراً قبل هذا العهد، وهي تقاضي الأسر المتوسطة والأسر العالية أمام المحاكم وقد كان هذا فيما مضى يعد عاراً كبيراً، ولا يلجأ إلى المحاكم إلا الأسر الفقيرة وأمثالها.

وفي سني القضاء نسيت ما كانت توصيني به السيدة الإنجليزية، من قولها تذكر أنك شاب، بل كنت أتذكر دائماً أنني شيخ، فالقضاء الشرعي يتطلب وقاراً وجلالا ومشياً بطيئًا وحركة جامدة وإلا كان أهوج أرعن، والقاضي الشرعي — بجانب ذلك — ينظر إليه على أنه رئيس ديني، فيجب أن يتحرج من الجلوس في قهوة أو أن يكون في ناد تشرب فيه خمر أو يلعب فيه ميسر.

فأصررت وخرجت وكان صائباً ما فعلت، فلو جلست معهم لخرجت الشائعات بأني كنت أشرب مع الشاربين، وألهو مع اللاهين، ولسقط مركزي الديني ومركزي الخلقي ومركزي القضائي معا.

لهذا كله بعد أن كبرت ودخلت مدرسة القضاء وتحررت من رعايته لي وقسوته علي بدأت أشعر بفضله، وينقلب خوفي منه إلى حب وإجلال له، وبعد أن أصيب بفقد ولديه زاد عطفي عليه وبذل كل جهد في عمل ما يرضيه. ومن جانبه بادلني عطًفا بعطف وحناًنا بحنان، وترك لي التصرف في ماله وشئونه، وتفرغ لحزنه ومرضه، ودينه. فلما مات أحسست لذعة أليمة وركًنا تهدم ولم يعوض، وفراغاً لم يملأ — رحمه الله.

الفصل الثالث والعشرون

في فترة القضاء هذه مات أبي رحمه الله وأنا قاض في قويسنا عن نحو ثمانين عاماً إثر عملية جراحية، فقد أصيب «بفتق» وهو في نحو الأربعين من عمره فلم يفكر في عملية يعملها، وظل يلبس الحزام الجلد يضغط به على موضع «الفتق» يخلعه مساء ويلبسه صباحاً، ويعاني في ذلك مشقة كبيرة يتحملها في صبر. وكثيراً ما كانت تخر من الفتق بعض الأمعاء ويحاول إدخالها ولبس الحزام فيمتنع عليه ذلك فأسرع إلى الطبيب يعالجه، وكان هذا سبباً كبيراً في ضيق خلقه والتنغيص عليه وعلينا — يضاف إلى ذلك ما أصيب به من إمساك مزمن، فكان إذا طال به الزمن ساء مزاجه وتلمس أي شيء يغضب عليه — ولعل بيتنا مدين لهذين السببين في التنغيص عليه من حين إلى حين، وما حرمه من ضحك ومرح وسرور.

وبذلك انتهت حياة حافلة شاقة ملئت بالكد الدائب والسعي المتواصل في طلب العلم وطلب الرزق، فقل أن يفارقه كتاب يقرؤه أو يكتبه، ورزقه متصل بعلمه من درس يدرسه أو كتاب يصححه أو نحو ذلك، لا يمنعه عن ذلك مرضه أو كارثة نزلت به، متدين أشد التدين، يكثر من الصلاة ومن قراءة القرآن والحديث، ويزكي ويصرف زكاته على الفقراء من أقاربه، ويصوم ويحج ويتهجد بالليل ويبتهل إلى الله.

يهزأ بالدنيا وزخرفها ومباهجها، رأيته مرة يلبس كسوة تشريف ليذهب إلى حفلة المحمل ثم يقف في الغرفة قليلا متردداً ثم يخلعها ويرميها بيده إلى أركان الغرفة ويقول: إنما الحياة الدنيا لهو ولعب وزينة، ويجلس بعد ذلك يتلو القرآن.

ومن مزاياه أنه كان يرى تعليم البنت كما يعلم الابن، فأرسل أختي الكبرى إلى المدرسة السيوفية وكانت المدرسة الوحيدة المصرية لتعليم البنات، في حين أن أكثر الناس كان يرى تعليم البنت في المدارس جريمة لا تغتفر.

ومع شدته على أولاده كان رحيماً بهم، وتظهر رحمته في قلقه على ولده إذا مرض، وحرقة قلبه إذا مات، وحنينه إليه إذا غاب ونحو ذلك.

وكان يؤثرني على إخوتي في العناية لما كان يظهر له من استجابتي وطاعتي؛ فإليه يرجع أكبر الفضل في أساس تعلمي من يوم أن ذهبت إلى الكتاب إلى يوم أن دخلت مدرسة القضاء، ولولاه لم أنجح في دراستي الأزهرية لصعوبتها وكثرة العوائق فيها، فقد سهلها علي بأسلوبه وقرب عبارته ووضوح معانيه، ولولا نجاحي على يده في العلوم الأزهرية ما نجحت في الدخول في مدرسة القضاء؛ بل منه تعلمت الصبر على الدرس واحتمال العناء في التحصيل. ومنه كسبت وضوح العبارة وبساطة الأسلوب، ومن مكتبته المتنوعة الغنية بكتب الأدب والتاريخ نبت في نفسي حب الأدب والتاريخ؛ وعلى الجملة فقد ورثت منه — إلى حد ما — كثيراً مما لي من مزايا وعيوب.

وحدثني أنه وهو طالب في إنجلترا دخن يوماً سيجارة في حجرة لا يسمح فيها بالتدخين، فلما أتم تدخينها دخل مراقب المدرسة عليه وعلى صحبه فقال: إني أشم رائحة دخان فمن الذي دخن «فسكت عاطف» ثم كرر المراقب القول وكرر «عاطف» السكوت، ثم خرج المراقب فنظر الموجودون إلى «عاطف» نظرة ازدراء، فعاهد الله من يومه ألا يكذب

الفصل الرابع والعشرون

ودق جرس التلفون بمنزلي في مصر الجديدة وأنا قاض بمحكمة الأزبكية سنة ١٩٢٦، وإذا المتكلم صديقي الدكتور طه حسين يطلب إلي مقابلته، وذهبت لمقابلته فإذا هو يعرض على أن أكون مدرساً بكلية الآداب

ومن قديم لم تعجبني البلاغة العربية، فبحثت في المكتبة الإنجليزية عن كتب في البلاغة فأنا أقرؤها وأقارن بينها وبين ما كتب في البلاغة العربية وأختار خيرهما وأوفق بين مصطلحاتهما

وقد فكرت في الأمر طويلا فهذا الذي قال حق، ولكن إلف العمامة وإلف الناس لي معمماً أخجلني من التغيير، فما زال يلح علي وما زلت أطيل التفكير حتى ملت إلى رأيه. وشجعني على هذا ما كنت ألاقيه في لبسي العمامة من عناء، فعامة الناس في مصر، ولاسيما في المدن، يجلون العمامة ظاهراً ولا يجلونها باطنا، ويوقرون الطربوش غالبا ويستخفون بالعمامة غالباً. ويتغلغل في نفوسهم مبدأ مقرر، وهو أن صاحب الطربوش يحترم إلا إذا ظهر عكس ذلك. وصاحب العمامة يحتقر إلا إذا ظهر عكس ذلك، وكم حدث لي من فصول كرهت من أجلها العمامة

كل هذا رجح عندي رأي صديقي فذهبت إلى الخياط وفصلت بدلتين وشريت طربوشاً. وعدت إلى هذا النوع من اللباس بعد سبع وعشرين سنة منذ كنت تلميذا في مدرسة أم عباس.

وكان ذلك تمهيداً لمشروع واسع في البحث وضعناه نحن الثلاثة الدكتور طه حسين والأستاذ عبد الحميد العبادي وأنا، خلاصته أن ندرس الحياة الإسلامية من نواحيها الثلاث في العصور المتعاقبة من أول ظهور الإسلام، فيختص الدكتور طه بالحياة الأدبية والأستاذ العبادي بالحياة التاريخية وأختص أنا بالحياة العقلية. فأخذت أحضر الجزء الأول الذي سمي بعد «فجر الإسلام»، وصرفت فيه ما يقرب من سنتين

فاستمررت أنا في إخراج ضحى الإسلام، في ثلاثة أجزاء وترقيت في منهج التأليف في ضحى الإسلام

وعلى هذا النمط أخرجت الجزء الأول والثاني والثالث من ضحى الإسلام في نحو سنتين. وهكذا تخصصت في (الإسلاميات).

الفصل الخامس والعشرون

وقد هيئت لي مرة فرصة السفر إلى باريس، وذلك أن أحد باشوات القاهرة وأغنيائها أراد أن يرسل ابنه إلى باريس ليتعلم هناك، وأراد ألا ينسى ابنه اللغة العربية، فعرض علي أن أصحب ابنه وأقيم معه وأعلمه اللغة العربية وأدرس أنا اللغة الفرنسية فالقانون، وأعجبتني الفكرة ولكنها زهرة محفوفة بشوك، فمن الثقيل على نفسي جداً أن أكون موظًفا عند باشا ونفقتي عليه، وابنه سيدي يستدعيني للدرس إذا شاء ويهجرني إذا شاء. ومع ذلك استشرت عاطف بك في الأمر ففضل الرفض فرفضت، واختير غيري لهذا العمل فدرس القانون ورجع محامياً في المحكمة الشرعية والمختلطة، ولو قبلت لتغير وجه حياتي.

هذا إلى ما أعتقده في الرحلات من فوائد، فأنا أرى أن الشيء لا تمكن معرفته معرفة حقة إلا بالمقارنة، فالأبيض إنما يعرف بياضه بمقارنته بالأسود والأخضر والأصفر، والأمة لا يعرف أنها متأخرة إلا بقياسها بأخرى متقدمة، والنظام لا يعرف أنه فاسد إلا إذا عرف أو على الأقل تخيل بجانبه نظام صالح، وهكذا.

وما أكثر من رأيت من الشبان يركبون البحر ويعودون إلينا ممتلئين إعجاباً بما رأوا من مدنية وحضارة وعلم ومناظر طبيعية، ويملئون أفواههم بالكلام عما شاهدوا، والإعجاب بما رأوا، والاحتقار لما يرون في مصر، فإلى أي حد صدقت نظرتهم وإلى أي حد صح حكمهم؟

لم أر البحر قبل إلا من شاطئ، أما داخله وعظمته وتقلباته فلم أرها إلا اليوم — رأيت البحر عظيماً جميلا أنيساً في النهار، ورأيته جليلا مهيباً موحشاً في الليل، ورأيتني أشعر نحوه بذلة أليمة أو ألم لذيذ، كشأني عند رؤية أي منظر طبيعي جليل، كغروب شمس أو جبل ضخم أو أمام السماء في ليلة تلمع نجومها. ولعل سبب اللذة ما أشعر به في هذه المناظر من جمال، ولعل سبب الألم ما أشعر به نحو نفسي أمام هذه المظاهر من ضعة.

ولعل ما لفت نظري إلى هذين الخلقين سوؤهم في مصر، فعنايتنا بالنظافة ضعيفة، وإذا رتبت الأمم في النظافة لم نجد أنفسنا في أعلى القائمة ولا أوسطها، ويفوقنا فيها من الشرقيين اللبنانيون والسوريون وكذلك الشأن في الهدوء، فبلدنا حرمت هذا الهدوء في القهوة وفي الشارع وفي الترام وفي كل مجتمع حتى في البيت.

زرنا مرة مسجد السلطان أحمد وهو مسجد كبير عظيم، وقابلنا بوابه فوقف يرثي لحاله وحال الدين في العهد الجديد ويقول بلسانه التركي: بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما كان. يقولها ويلتفت عن يمينه ويساره خوًفا من أن يسمعه احد.

رأيت رجلين ألمانيين مستشرقين١ يعيشان للكتب العربية وللعمل العربي، لا لذة لهما إلا هذا في الدنيا، صباحهما في المكاتب ومساوئهما على مكتبيهما يقرآن ويصححان. أحدهما يحضر بحًثا في المقامات٢ فيجمع المقامات التي كتبت من عهد البديع إلى اليوم، ويصنفها ويتفهمها ويعلق عليها. والثاني٣ مشغوف بكتب المذاهب الدينية، فهو ينشر كتاباً لأبي الحسن الأشعري٤ ويرى فيه الأمرين في تصحيح جمله وتفهمهما، ويعرض علينا ما يقف فيه، فنطيل النظر لتفهم العبارة. وقد نوفق وقد لا نوفق، وكل منهما صبور أشد الصبر، يتعبد بعمله كما يتعبد الراهب في صومعته.

وهذا «إسماعيل أفندي صائب»٥ رجل مسن وقور طيب القلب يعرف كل ما في مكتبات الآستانة من كتب. وما هو قيم وما هو ليس بقيم، ويقف نفسه لخدمة كل من أراد منه علماً بهذا الموضوع. زاهد في الدنيا راض بالقليل، عرض عليه أن يكون أستاًذا للأدب العربي في جامعة إستانبول بمرتب كبير فرفض لأن هذا المنصب مدني يضطر صاحبه في العهد الجديد أن يلبس البدلة والقبعة، وهو حريص جد الحرص على أن يكون شيخاً معمما، والعمامة لا يسمح بها إلا لرجل له عمل ديني رسمي، فهو يفضل العمل الديني القليل الأجر على العمل المدني الكبير الأجر.

والنساء فتن بالحرية الجديدة والسفور الجديد، فهن يمرحن ويبالغن في المرح، والفتيات يرقصن حتى في الشارع، ويغنين في المقاهي، وكأنهن سجناء خرجن من سجنهن بعد طول العذاب

لقد أعلم أن قد حدثت في تركيا انقلابات اجتماعية خطيرة تثير اهتمامنا، لأن تركيا أول بلد إسلامي نزعت هذا المنزع وجربت هذه التجارب؛ فقد خلعت الخليفة وألغت الخلافة. وحرمت الخليفة المخلوع وأفراد أسرته وأصهارهم من الإقامة في الجمهورية التركية، وحولت الخلافة إلى جمهورية، وحولت كثيراً من أملاكهم ومباني القصور وملحقاتها إلى الأمة، وذهب العقلاء في ذلك مذاهب شتى، منهم من يحبذ هذا العمل ومنهم من ينقده.

وألغت وزارة الأوقاف، وجعلت تدبيرها لرئيس الأمور الدينية وهيئة علمية استشارية بجانبه، وألغت المحاكم الشرعية، ووحدت القضاء.

وألغت المدارس الدينية ووحدت المدارس، وقد كانت المدارس الدينية كثيرة منتشرة متنوعة في البلاد، وكان بعضها يتبع وزارة الأوقاف وبعضها يتبع وزارة الشئون الشرعية، فجعلتها كلها تابعة لوزارة المعارف، تعلم تعليما مدنيا واحدا، ومن شاء أن يعلم ابنه تعليما دينيا فليتكفل بذلك على نفقته، وقصرت التعليم الديني على كلية اللاهوت التي تتبع الجامعة، وهذه هي التي تخرج رجال الدين.

وألغت الطرق الصوفية وأغلقت الزوايا والتكايا، وحرمت الألقاب الصوفية من درويش ومريد وأستاذ وسيد وشلبي ونقيب.. إلخ

وحددت الزي الديني فلم تسمح به إلا لطائفة خاصة، كرئيس الأمور الدينية والأئمة والخطباء والوعاظ المعينين من قبل رئيس الأمور الدينية، أما من عداهم فيحرم عليهم لبس العمامة والتزيي بزي رجال الدين.

وسنت قانوًنا مدنياً عممته بدل مجلة الأحكام الشرعية وبدل الأحوال الشخصية اقتبسته من القوانين الأوروبية.. منعت فيه مثلا تعدد الزوجات وخولت لكل من الزوجين الحق في رفع قضية الطلاق لأسباب معينة.

وحررت المرأة من حيث سفورها ومساواتها بالرجل، سياسيا واجتماعيا ومدنياً، وفتح لها مجال الكسب والتوظف في الوظائف. ولم يكن السفور بقانون، وإنما كان دعوة دعا إليها مصطفى كمال وألح فيها، فاستجابت المرأة إليه، أما مساواتها بالرجل اجتماعياً فقد شرعت في القانون المدني، فسوي بينها وبين الرجل في الميراث، واعتبر الزواج شركة تتألف من جزءين متساويين. وأخيراً شرع للمرأة مساواتها بالرجل في الحقوق السياسية، من إعطائها حق أن تنتخب وتنتخب. وعني بتعليمها، وتوسع في ذلك توسع تعليم الذكور. وفصل الدين عن الدولة، فلم يستخدم الدين في التشريع ولا في الحكم ولا في الإدارة ونحي رجال الدين عن أي تدخل في الشئون الدنيوية.

وغيرت كتابة اللغة التركية من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية.

يجب أن ترقبوا التطور الحادث في تركيا مراقبة دقيقة، فمصر مرتبطة بتركيا ارتباطاً كبيرا من الناحية الاجتماعية، وكثير من عادات المصريين وتقاليدهم مأخوذة عن تركيا، فإذا تغيرت تركيا يوشك أن تتغير مصر، أضف إلى ذلك أن الآستانة هي البوغاز الذي تمر منه المدنية الغربية إلى مصر. ورأيي أن التيار الغربي لا يمكن مقاومته، فخير أن نستعد للسير معه قبل أن يجرفنا رغم أنوفنا.

إن أكبر مظهر للانقلاب التركي هو السفور، وقد أفاد الأمة التركية من حيث إصلاح الزواج، فكل من الزوجين يرى صاحبه ويأنس به قبل عقد الزواج، ثم إن السفور مكن المرأة من معرفة كثير من شئون الدنيا وكانت تجهلها. والسفور في صالح المرأة فالحجاب كان يحيط المرأة بهالة تمكن الرجل من الإمعان والتخيلات والجري وراء التصورات، ولذلك كثر الغزل في الأدب العربي وأمعن الغزلون في التخيلات.

وحبذ تقليم الحكومة لأظفار رجال الدين لأنهم كانوا نصراء الرجعية وأداة في يد السلاطين الظالمين، ينكلون بالأمة بواسطتهم، وكان سلطانهم كبيراً على الناس، وقد استخدموا هذا السلطان في غير مصلحة الأمة

فما فعلته الحكومة التركية من تحريم لبس العمامة إلا لرجال الدين الرسميين عمل نافع قطع دابر كثير من وسائل التخريف والتدجيل

سألته: هل يعتقد أن تركيا ستستمر في سيرها في طريقها نهضتها؟ فقال: إن كل الظواهر تدل على ذلك، فالجيل الجديد يؤيد الحركة ويحافظ عليها، والناس جميعاً أسعد حالا في ظل هذا العهد منهم قبله.

لا أمل في إصلاح مصر ما دام هناك لغة للعلم ولغة للكلام، فإما أن ترقى لغة الكلام وإما أن تنحط لغة العلم حتى تتحدا، وحينئذ فقط يكون التفكير الصحيح واللغة التي تستمد روحها من الحياة الواقعية.

ثم تكلمنا عن المستشرقين وما يؤدونه من خدمة للعلم لولا لعب السياسة بعقول بعضهم، وانتقلنا إلى الفرق الإسلامية وصعوبة الوصول فيها إلى حقيقة، لأن الذين يكتبون فيها إما مؤيد غال، أو معارض غال وسألني: هل الإسلام شجع الصوفية أو ناهضها؟ وكان من رأيي أنه شجعها.

ويتدين تديًنا مزيجاً من قلبه وعقله، فهو يصوم مثلا على طريقة خاصة، فيفطر على كوب من اللبن عند شروق الشمس، ولا يحرم عليه الماء، ويبقى على ذلك إلى موعد الإفطار، فيفطر، ويعني بصيامه عدم كثرة الأكل، والامتناع عن أكل الأشياء الدسمة، والامتناع عن الأقوال والأعمال المؤذية.

كان دليلنا عبد الله أفندي رجلا سودانيا طويل القادمة، خدم في السراي أربعين سنة، وهو يترحم على الأيام الماضية، أيام العز والمجد، ويأسف لضياعها وضياع الإسلام

وقد أفادتني هذه الرحلة اتساعاً في أفقي، فأصبحت أنظر إلى مصر وحوادثها وشئونها من عل وكأني في طيارة، وغلبتني وأنا في الآستانة العاطفة الدينية، لا من ناحية كثرة الصلاة ونحوها، ولكن من ناحية الشعور القلبي.

الفصل السادس والعشرون

فدبرنا رحلة إلى الشام … فها نحن نرحل من القاهرة إلى القنطرة ونعبر القنال، ونخترق صحراء سيناء بالقطار ونمر على غزة ثم بعض المستعمرات الصهيونية؛ ونستمع إلى بعض الأحاديث عن منشآتهم في مستعمراتهم، فنشعر الخوف من المستقبل، حتى نصل إلى محطة «اللد» فنستقل قطارا آخر إلى بيت المقدس

ونلتقي بالأستاذ السيد الحسيني مفتي فلسطين فيوحي إلي منظره بقوة إرادة وتصميم وعزم ونفس لا تهدأ حتى تتسلط

ونزور بيت لحم، ونرى كيف تتنازع الطوائف المسيحية المختلفة على الأمكنة وكيف يتقاسمونها شبراً فشبرا، فأعجب بسماحة الإسلام وعده الأرض كلها مصلى، والأرض كلها لله، ونذهب إلى قرية الخليل ونزور مسجده ونعجب ببنائه الضخم ونرى فيه مظهراً من مظاهر البناء الروماني وطابعاً من طوابعه.

ونزور المسجد الأقصى فنعجب بفنائه، وننتقل إلى الصخرة ونقف تحت القبة العظيمة، وننظر إلى الأبنية الجليلة التي بناها صلاح الدين.

ثم نسير بعدها إلى دمشق، ونحن متطلعون إلى رؤيتها، نحمل ذكريات من أحداثها من عهد أن كانت مركز الخلافة الإسلامية في عهد معاوية والخلفاء الأمويين من بعده

ولكن كانت دمشق وسورية كلها إذ ذاك في حوزة الفرنسيين، وهم يخشون من طلبة الجامعة وأساتذتها لأنهم يعتقدون أنها بؤرة أفكار وطنية ثورية، فخشوا أن نلتقي بأمثالنا من الناقمين على الاستعمار، فأحاطونا بسياج لطيف الملمس في شكل إكرام، فكنا كلما سرنا احتاط بنا موظفو الحكومة يستقبلوننا ويطلعوننا على ما أحبوا لا على ما نحب، وهذا ظن ظننته، دل عليه ما رأيته.

ونزور المسجد الأموي بدمشق فنسحر بعظمته وجلاله، وسعته وجماله. وضريح شيخ الصوفية محيي الدين بن عربي، وقبر صلاح الدين الأيوبي وأستاذه نور الدين محمود زنكي، ونقضي سهرة لطيفة في نادي الموسيقى بدمشق.

ونمر بحماه ونخترقها ونسر بنواعيرها، ونصل إلى بيروت فنزور (كلية المقاصد) الإسلامية والجامعة الأمريكية ومدرسة الآباء اليسوعيين، ونعود على الباخرة إلى الإسكندرية.

والرحلة في نظري لا تكون لها قيمة حقة إلا إذا تفتح القلب لما يرى، وجال الخيال في ذلك جولته، ومزج الإنسان ما يرى بنفسه.

وكان مما أتعبني في هذه الرحلة كثرة ما أدعى إلى الأكل وكثرة ما يلقي من الخطب على الموائد، فلا يزال الشرقيون يتصورون الكرم أكلا وخطابة، وكلما كثر الأكل وكثرت الخطابة كان عنوان الكرم.

ومع هذا فالأديب والفيلسوف من طبيعتهما أن يختزنا في أنفسهما كل ما يقع تحت حسهما في وعي أو من غير وعي. ولا يدري أحدهما متى ينتفع بهذا وكيف ينتفع، ولكنه سينتفع حتماً على كل حال.

ولا بأس هنا أن أذكر رحلة أخرى رحلتها إلى بيت المقدس كانت عجيبة حًقا مربكة حًقا ذلك أني تلقيت يوما خطابا من جمعية الشبان المسيحية في القدس، تطلب مني محاضرتين في أي موضوع أختاره، وحددت لي موعداً بعد شهر تقريباً، فقبلت الدعوة واخترت موضوعاً هو: «ما الذي يعوق المسلمين اليوم عن المشاركة في بناء المدنية الحديثة؟»

فقابلت الأستاذ إسعاف فشرح لي الموقف وقال: إن مركز جمعية الشبان المسيحية متهم الآن بأنه مركز تبشير للمسيحية ومركز تبشير للاستعمار الإنجليزي، وقد ثبتت عليه بعض الأحداث فقاطعه المسلمون من أجل ذلك، وقد أرادت الجمعية أن تكسر هذه القطيعة وتبطل الإضراب بدعوتك لإلقاء هذه المحاضرات.

ثم إن موضوع المحاضرة التي سألقيها يدور حول الإشادة بالإسلام والمسلمين، وأن السبب في أنهم لم يبنوا في المدنية الحديثة مع البانين لا يرجع إليهم ولكن يرجع إلى أن الاستعمار الأوربي يأبى رقيهم، ويعمل على إضعافهم لاستغلالهم. ولو أنصف الأوربيون لمهدوا للمسلمين سبيل القوة حتى يقفوا على أجلهم وبينوا في صرح الحضارة معهم.

الفصل السابع والعشرون

وظللنا نسير فيما بين النهرين دجلة والفرات أكثر من ساعة في أرض طيبة خصبة، ولكنها مهملة مهجورة تنتظر اليد العاملة والرؤوس المفكرة والأموال المدبرة حتى وصلنا بغداد — قارنت بين بغداد الرشيد والمأمون وبغداد العهد الحاضر، وخصب العراق ومزارعه في الماضي والحاضر، فحزنت، ولم أستطع أن أكتم حزني

وقد وفقني الله فأجبت بأن مصلحة الأمة في كثرة المتعلمين تعلما عاليا وإنشاء المدارس العالية لهم في البلاد نفسها، ثم إرسال بعثة من النابغين، وأن التعليم العالي كله خير وبركة مهما كانت النتائج.

ولمست في العراق الانقسام بين الشيعة والسنية، وقد زرت النجف وكربلاء وغيرهما، وهي حصون الشيعة، وصادف ذلك أيام العزاء وذكرى مقتل الإمام علي بن أبي طالب، ورأينا العامة في كربلاء يضربون صدورهم ضرباً شديدا حتى ليدموا أجسامهم حزًنا على الإمام، ومنهم من يضربون أنفسهم بالسيوف، ومنهم من يضربون ظهورهم بسلاسل من حديد، والنساء يولولن على نحو ما كان معروفا من عمل الشيعة في القاهرة إلى عهد قريب. وقد أسفت لهذه المناظر وحملت مسئولية ما يعمل في هذا الباب علماء الشيعة، وفيهم فضلاء أجلاء مسموعو الكلمة يستطيعون أن يبطلوا كل هذا بكلمة منهم، ولكن لا أدري لماذا لا يفعلون.

ولأن الخصومة بين أصحاب علي وأصحاب معاوية معقولة في زمنهما أو بعد زمنهما فلم تعد معقولة الآن، إذ ليس هناك اليوم نزاع على خلافه ولا إمامة، وإنما هو نزاع على أيهم أفضل أبو بكر وعمر أم علي؛ وهذه لا يبت فيها إلا الله، ومن السخافة أن نضيع أوقاتنا في مثل هذا الكلام، وكل العقلاء متفقون على أن كلا من الثلاثة رجل له فضله ومزاياه، والله وحده هو الذي يتولى مكافأتهم على أعمالهم، ويزنهم بالميزان الصحيح ويقدرهم التقدير الحق، وما عدا ذلك فالخلاف بين الشيعة والسنية كالخلاف بين حنفي وشافعي ومالكي لا يستدعي شيئا من الخصومة؛ ولكن أفسد الناس ضيق العقل وعواطف العامة ومصالح بعض رجال الدين وصبغ المسائل السياسية بالمسائل الدينية.

ولكني لما استندت على كتبهم في «ضحى الإسلام» ونقدت بعض أراءهم نقداً عقليا نزيها مستندا على كتبهم غضبوا أيضا، والحق أني لا أحمل تعصبا لسنية ولا شيعة، ولقد نقدت من مذاهب أهل السنة ما لا يقل عن نقدي لمذهب الشيعة وأعليت من شأن المعتزلة بعد أن وضعهم السنيون في الدرك الأسفل إحقاقا لما اعتقدت أنه الحق.

هذه مصر تتقدم الجميع في مظاهر المدنية والحضارة والثروة، وهذا لبنان يمتاز بجد أهله ونشاطهم وثقافتهم وتقدم المرأة عندهم

وهذه الشام تمتاز بالنشاط والنجاح التجاري الذي عرف فيهم من عهد الآراميين، وهذا العراق يشعر بثقل الدين القديم، فينهض أهله، وبخاصة شبانه بتأسيس نهضة جديدة تستغل فيها موارد البلاد معيبة بالبطء الحكومي في تصريف الشئون، وضعف الابتكار، والحاجة إلى الأجنبي النزيه في رسم الخطط للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي،

وكلها معيبة في نظام الحكم وعدم رعاية حقوق الشعب، وقلة شعور الشعب بحقوقه وواجباته وإن اختلفت درجاتها في ذلك، ولكل أمة من هؤلاء مشاكلها. فمشكلة لبنان انقسام أهله إلى مسلمين ومسيحيين، واختلاف نزعاتهم بين ميل إلى فرنسا وكره لها، ومشكلة القدس الخلاف بين زعمائه وأحزابه على الغلبة والرياسة، مع أن الصهيونية تنخر في عظامهم، ومشكلة العراق تقسم أهله بين سنية وشيعة وبدو وحضر، وهكذا رأيت كل هذه المناظر واختزنتها في نفسي وأثرت في تفكيري.

أما أنا فقد غمرني أيضا الشعور الديني وكان في الحج مواقف اهتز لها قلبي ودمعت لها عيني، وأروعها — على ما أذكر — مشاهدة الكعبة وطوافي طواف الناس حولها، ثم وقوفي بعرفات وعشرات الآلاف من الحجاج يلبسون لباسا أبيض بسيطا كأنهم تجردوا من الدنيا ونعيمها وطرحوا زخارفها. ووجهوا قلوبهم كلها إلى خالقهم يبتهلون إليه أن يغفر لهم ما تقدم من ذنبهم، وأن يعينهم على حياة جديدة ملؤها الطاعة والتقوى، ثم زيارتي للحرم المدني في المدينة ووقوفي أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، أستحضر تاريخه ومواقفه وعظمته، فكل هذه المواقف كانت جميلة حقا رائعة حقا.

وأيقنت أن إدارة الحج بمعاونة العالم الإسلامي لها تستطيع بجهد قليل أو كثير أن تتلافى هذه العيوب وتريح الحجاج مما يلحقهم من أذى قد يصرفهم في كثير من الأحيان عما حجوا لأجله، من فراغ للعبادة واتصال بالله.

الفصل الثامن والعشرون

أتيحت لي فرصة أخرى سنة ١٩٣٢ لأرى الغرب كما رأيت الشرق، وأرى المدنية الحديثة كما رأيت مدنية القرون الوسطى، وأرى من يسمونهم المتقدمين كما رأيت من يسمونهم المتأخرين، فيكون لي بدل العين عينان وبدل المنظر الواحد منظران، فاخترت عضوا في مؤتمر المستشرقين الذي ينعقد في ليدن بهولنده، وقررت السفر قبل الموعد بنحو شهرين، حتى أزور ما أمكنت زيارته من مدن أوربية،

فركبت البحر إلى مرسيليا مع صديقي الدكتور عبد الرزاق السنهوري — وقد خبر فرنسا خبرة طويلة ودقيقة وعرف أهلها وبلادها إذ أقام فيها سنين يدرس القانون

والمسافر من فرنسا إلى إنجلترا يشعر بالفرق الكبير، حين يطأ أول أرض إنجليزية؛ فمن ساعة أن يتلقاه الحمالون الإنجليز ليحملوا أمتعته ويوصلوه إلى القطار يشعر بالهدوء التام والنظام الشامل وسير الأعمال فيها كأنها آلة دقيقة منظمة كل جزء منها منسجم مع ما حوله.

وكان رئيس اليوم الذي ألقيت فيه محاضرتي هو الأستاذ مرجوليوث

ثم عدت إلى مصر بعد أن شاهدت معالم المدنية الحديثة ووقفت على بعض أسرار تقدم هذه الأمم، وكنت في أكثر ما أرى يشتغل ذهني في المقارنة بين الشرق والغرب — أذكر ذلك إذا رأيت الآلات والمصانع وتقدمها، والشوارع والبيوت ونظافتها، والناس ونظامهم، والمرأة وأهمية مركزها في الحياة الاجتماعية، حتى لو نسب الفضل الأكبر في المدينة الحديثة لكان أكثره يرجع إلى المرأة. فالمرأة التي تربي الأمة وهي التي تعود أبناءها النظام والأخلاق

ونرى بيت هذه الأبقار فنتمنى لو تيسر مثل هذه البيوت لفلاحينا في مصر: نظيفة جميلة أضيئت بكهرباء وفرشت بألواح الخشب، وحدد لكل بقرة منامها ومجرى ما يخرج منها، فلا ترى في بيوتها إلا نظافة وأناقة

الفصل التاسع والعشرون

ولكن لا يصفو الزمان حتى يكدر، ولا يحسن حتى يسيء، فعقب هذا الحفل بأيام شعرت بخمود شديد في جسمي، وانقباض في صدري فعرضت نفسي على الطبيب فقرر أني أصبت بالبول السكري

وأحمد الله إذ لم يكن من الشدة كما هو عند غيري.

وكان من تجاربي أن رأيت أكثر الناس يسيرون مع العظماء في آرائهم وأفكارهم ولو اعتقدوا بطلانها، ولكن إذا تشجع أحد ودافع عن الحق وجهر به وصمم عليه تبعه هؤلاء وانضموا إلى جانبه ضد العظماء فليس عندهم من الشجاعة ما يبدئون به قول الحق، ولكن ليس عندهم أيضا من السفالة ما يناهضون به قائل الحق.

وقد استفدت من هذا المجلس تجربة أخرى، وهي أن كثيرا من الناس يتضايقون من المعارض وقد يحاولون إيذاءه والتنكيل به، ولكنهم إذا تيقنوا أنه إنما يدافع عما يعتقد، وأنه إذا دافع بأدب، وفي لياقة ولباقة، من غير أن يمس شعورهم وكرامتهم كان موضع الاحترام والإجلال والكرامة من مؤيديه وخصومه معا.

ها أنا ذا في عمادة كلية الآداب، قد شغل وقتي كله بأعمال إدارية أكثرها لا قيمة له، فكل الأوراق تعرض علي حتى شراء مكنسة، وكل أعمال الطلبة والأساتذة تعرض علي حتى الكلمة النابية يلفظها طالب، إلى شكاوى الطلبة وما أكثرها! وتزاحم المدرسين والأساتذة على العلاوات والدرجات وتسوية الحالات وما أصعبها! فكان هذا يشغل وقتي، حتى لا أستطيع أن أفرغ للعلم إلا قليلا، ولا أن أفرغ للنظر في المسائل الأساسية كمناهج التعليم وطرق التربية إلا بقدر، وهذه عدوى من نظام الحكم في مصر حيث تتركز الأعمال كلها في يد رئيس المصلحة، وما كان أحرى الجامعة أن تتخلى عن ذلك، وتوزع الاختصاص ويتفرغ العميد للمسائل المهمة، ولكن أنى لنا ذلك!

وحمدت الله أن تحررت منها ورجعت أستاذا كما كنت، وبدأت أتمم سلسلة فجر الإسلام وضحى الإسلام على النحو الذي رسمت، فأخرجت الجزء الأول من ظهر الإسلام.

فإن كان لي شيء من عناد وقوة إرادة وجلد على العمل وصبر على الدرس وسرعة غضب وميل إلى الحزن وكثرة تفكير في العواقب، فذلك كله من أبي رحمه الله. وإن كان في شيء من سذاجة، وعدم حرص على مال، وحزن على أني حزين، وحسن ظن بالناس فيما يقولون ويفعلون، وندم على غضب، وسرعة تحول من غضب إلى هدوء ومن سخط إلى رضا، فذلك كله من أمي، رحمها الله. وهل نحن إلا صور جديدة لآبائنا، يعيشون فينا، ويحلون في جسومنا ونفوسنا.

الفصل الثلاثون

وكانت أمي طيبة القلب أقرب إلى السذاجة، وكانت — كأكثر نساء وقتها أمية لا تقرأ ولا تكتب، وكانت محبوبة من أهل حارتها لطيب قلبها، وكنت شديد الحب لها والإشفاق عليها، لأنها تألمت كثيرا في حياتها، فقد مات من أولادها وهم في شبابهم، وعاملها أبي معاملة شديدة قاسية

فقدتها وأنا كبير ولي زوجة وأولاد، ومع هذا أحسست بفقدها فراغا لم يملأه شيء، وبذلت جهدي في إراحتها، حتى لما هرمت كنت لا أستريح إلى سفري إلى الإسكندرية للتصييف إلا إذا كانت معي، أستبشر كل يوم برؤيتها والجلوس إليها، ومع هذا لا أرى أني قضيت لها بعض دينها، وكانت تبشرني من صغري بأني سأكون أسعد أولادها، لأنها رأت ليلة في منامها أني كنت بجانبها أسير معها، فدخلنا بيتا فتح لنا فيه كنز، وإذا غرف مملوءة ذهبا، فأمرتني أن أملأ حجري منه على عجل فقال لها الملك الموكل بالكنز: لا تعجلي فكل هذا لابنك هذا، ففرحت بهذا الحلم واعتقدت صحته واستبشرت به، وصارت تعيده علي في كل مناسبة وفي جميع أدوار عمري إلى أن ماتت.

ولكن لعل أسوأها أثرا في نفسي ما شاهدته من قلة الوفاء في بعض طلبتي، فقد كنت أعتقد أن الرابطة العلمية فوق كل الروابط، وأن حق الأستاذية فوق كل الحقوق، أما أن طالبا يخرج على أستاذ ويخاصمه، ويقدح فيه بالكذب والأباطيل فشيء لم أكن رأيته، فلما رأيته استعظمته، وحز في نفسي وبلغ أثره أعماق قلبي؛ لم أعد بعد ذلك أثق بالناس كما كنت أثق، ولا أركن إليهم كما كنت أركن، فكانت إذا حدثت فصول من هذا القبيل تكسرت النصال على النصال: وصرت أشك فيمن أصطفيه … لعلمي أنه بعض الأنام، وعدت إلى الكتاب فهو أوفى وفي وخير صديق.

الفصل الحادي والثلاثون

ولي تجربة في هذا الباب؛ وهي أني إذا عمدت إلى إعداد بحث علمي كفصل من فصول فجر الإسلام أو ضحى الإسلام فأنا أرى كل وقت صالح لهذا العمل ما لم أكن مريضا، أما في المقاولات الأدبية فلست صالحا في كل وقت، بل لابد أن تهيج عواطفي بعض الهياج، وتهتز نفسي بعض الاهتزاز، وأنسجم مع الموضوع كل الانسجام، فإذا لم تتيسر لي كل هذه الظروف كنت كمن يمتح من بئر أو ينحت من صخر.

وأحيانا أرى القلم يجري في الموضوع حتى لا أستطيع أن أوقفه، وأحيانا يسير في بطء وعلى مهل حتى لا أستطيع أن أستعجله، وأحيانا يتعثر فلا أجد بدا من الإعراض عن الكتابة. ومن الصعب تعليل ذلك، فقد يكون سببه صلاحية المزاج وسوءه، وقد يكون قوة الدواعي وضعفها، وقد يكون الاستعداد للتجلي وعدمه.

وقد تعودت من الأدب الإنجليزي الدخول على الموضوع من غير مقدمة، وإيضاح المعنى من غير تكلف، والتقريب — ما أمكن — بين ما يكتب الكاتب وما يتكلمه المتكلم، وعدم التقدير للمقال الأجوف الذي يرن كالطبل ثم لا شيء وراءه.

وبعد أن كتبت هذه المقالات في «الرسالة» و«الثقافة» طلب إلي أن أكتب في مجلات أخرى: الهلال والمصور وغير ذلك ففعلت، ولما كثرت مقالاتي جمعت بعض ما كتبت وزدت عليها وأودعتها ثمانية أجزاء سميتها «فيض الخاطر».

وعلى هامش هذا طلب إلي أن أذيع أحاديث في محطة الإذاعة فأذعت، وكانت أحاديثي أشبه ما تكون بمقالاتي من حيث موضوعاتها وأسلوبها، إلا أنني تعمدت في هذه الأحاديث أن تكون أسهل موضوعا وأبسط تعبيرا، ونزلت في ذلك إلى أن دنوت من العامية لتناسب جمهور السامعين، ولم أر في ذلك بأسا بل لقد هممت أحيانا أن أتحدث بالعامية لأني أرحم الأميين وأشباههم ألا يكون لهم غذاء عقلي يستمتعون به. وأكره من الأدباء أرستقراطيتهم، فلا يكتبون إلا للخاصة ولا يتفننون إلا لهم. وواجب الأدباء أن يوصلوا غذاءهم إلى كل عقل، ونتاجهم الفني إلى كل أذن، فإذا لم يفعلوا فقد قصروا

وقد لفت نظري لهذا مرة أن حضر إلى مصر رجل كبير من مسلمي الصين، فتقابلنا مرارا وتحدثنا كثيرا، وفي مرة عرفته بالأستاذ توفيق الحكيم، وقلت له إنه أديب كبير، فسألني هل هو أديب شعب أو أديب أرستقراطي؟ فرن السؤال في رأسي، فلما قلت له هو أديب أرستقراطي، سألني: فمن من أدبائكم شعبي؟ فحرت جوابا، وآلم نفسي ألا يكون لجمهور الشعب أديب، وكثيرا ما شغلت ذهني مشكلة العلاقة بين اللغة الفصحى واللغة العامية وأن صعوبة اللغة الفصحي — ولاسيما من ناحية الإعراب — تحول دون انتشارها في جمهور الشعب وبخاصة إذا أردنا مكافحة الأمية وتعميم التعليم، فنحن لو أردنا تعميم التعليم بين الجماهير باللغة الفصحى المعربة احتجنا إلى زمن طويل، ولم نتمكن من إجادة ذلك كما نتمكن إلى اليوم من إجادة تعليم المثقفين إياها

ومن أجل هذا اقترحت في بعض مقالات نشرتها وفي محاضرة في المجمع اللغوي أن نبحث عن وسيلة للتقريب، واقترحت أن تكون لنا لغة شعبية ننقيها من حرافيش الكلمات (على حد تعبير ابن خلدون) ونلتزم في أواخر الكلمات الوقف من غير إعراب، وتكون هي لغة التعليم ولغة المخاطبات ولغة الكتابة للجمهور؛ ولا تكون اللغة الفصحى المعربة إلا لغة المثقفين ثقافة عالية من طلبة الجامعة وأشباههم، وإلا الذين يريدون أن يطلعوا على الأدب القديم ويستفيدوا منه وبهذا تكسب اللغة العامية والفصحى معا

ولكن هذا الاقتراح لقي معارضة شديدة بل وتجريحا عنيفا.

الفصل الثاني والثلاثون

وقد نشأت عندي فكرة لا أدري من أين نبتت، فقد لاحظت خطأ وزارة المعارف في قصرها جهودها على التعليم داخل جدران المدرسة، مع أن في عنقها تثقيف الشعب بأجمعه في المدارس وغير المدارس بالصور المختلفة، وخطأ آخر وقعت فيه وهو فهمها أن نشر الثقافة لا يكون إلا بواسطة تعليم القراءة والكتابة، مع أنه يمكن نشر الثقافة بواسطة السمع، وبواسطة عرض الأشرطة السينمائية على الناس ونحو ذلك من وسائل من دون القراءة والكتابة

وعرض كل هذا على وزير المعارف فقبله وشجع الفكرة، ورصد لها نحو عشرة آلاف جنيه للبدء بها، وأدخلت في خطاب العرش، وأصبحت حقيقية بعد أن كانت خيالا، وأعلن عن الجامعة الشعبية وشعبها، فكثر الإقبال عليها ونجحت نجاحا يدل على أن حاجة الناس كانت ماسة إليها، وكلما ظهرت فيها بعض العيوب تدوركت بقدر المستطاع

ولم يمض إلا قليل حتى أصبح عدد الطالبين والطالبات فيها يتجاوز سبعة عشر ألفا، وأصبحت ميزانيتها نحو سبعين ألفا. ومع هذا نرى أننا إذا قسنا أنفسنا ببعض الممالك الأخرى لا نزال في حرف الألف.

وعنيت وأنا في الإدارة الثقافية هذه بتشجيع ترجمة أمهات الكتب الغربية إلى اللغة العربية، فكان هذا العمل نواة توسعت فيها الوزارة فيما بعد.

ثم التفت إلى الوزير وقال: ما رأيك في السفر إلى لندن عضوا مع ممثلي مصر في مؤتمر فلسطين؟ فاعتذرت، فسألني عن السبب فقلت إني رجل علم أو — على الأصح — أنتسب إلى العلم، ولم أشتغل بالسياسة إلا على هامش حياتي، وأمور السياسة تحتاج إلى درس طويل ومران كثير، فقال: لا بأس من وجود العالم بجانب السياسي، وصمم فقبلت

وأخذت أبحث في المكتبات عن الكتب التي ألفت عن مشكلة العرب والصهيونية في فلسطين، وأقرأ التقارير التي كتبت وأودعت وزارة الخارجية أو الجامعة العربية، والكتاب الأبيض وغير الأبيض

ونزلت الطائرة لندن بعد سبع عشرة ساعة، فما أضعف الإنسان وأقواه، وما أقدره وما أعجزه!

وأجد نفسي في جو سياسي لم أعتده، بين كبار الساسة من العرب يتناقشون ويتجادلون على غير النمط الذي ألفته في مجالس الكليات ومجلس الجامعة، فهم يراعون اعتبارات ونزعات واتجاهات لا يراعيها العالم، فأسمع أكثر مما أتكلم، ولا أشترك في المناقشة إلا بقدر، ولا أبدي الرأي إلا في المسائل الهامة.

ورأيت كبار الإنجليز وسمعت أقوالهم، وأصغيت إلى تفكيرهم، فإذا هم ناس كسائر الناس، وعقليتهم كسائر العقليات، مزيتهم في اعتمادهم على الاختصاصيين الذين تخصصوا في كل موضوع وعرفوا دقائقه، فإذا جد أمر استعانوا بهؤلاء الخبراء وأصغوا إلى نتيجة خبرتهم وكونوا من ذلك آراءهم، وأكبر ما يمتازون به علينا توزيع الاختصاص، والنظام الدقيق، وثقة الكبير بالصغير والصغير بالكبير، ومعالجتهم الأمور معالجة علمية منظمة، فكل شيء مدروس ولا شيء مرتجل، والغرض محدود وأساليبه مرسومة، لا ارتجال ولا فوضى ولا تفكير عفو الساعة.

كما أعجبني بالشعب ديمقراطيته الحقة، فكل إنسان ينظر إليه على أنه إنسان كبيرا كان أو صغيرا، ولا يحق للوزير أن ينال شيئا يمتاز به عن الصانع الصغير

فإن أنا نظرت إلى الشعب وأخلاقه وسلوكه سررت وأعجبت، وإن أنا نظرت إلى السياحة الخارجية وما يفعل الاستعمار الإنجليزي في الشرق ألمت وتقززت.

الفصل الرابع والثلاثون

اضطربت لهذا النبأ وأحسست خطورة الموقف. وأكبر ما جال في نفسي شعوري بحرماني من القراءة والكتابة مدى طويلا، وأنا الذي اعتاد أن تكون قراءته وكتابته مسلاته الوحيدة.

بدأ الطبيب المعالج يباشر علاجه: فها أنا في المستشفى والطبيب يعصب عيني قبل العملية بأسبوع، وها أنا ذا في ظلام حالك ليل نهار، دنياي كلها ليل، بل أكثر من ليل، فالجلسة محرمة، والتقلب على الجوانب محرم، كأني قد شددت على السرير شداً، بل أصعب من الشد، لأن إرادتي هي التي تشدني، فاحتملت في صبر، وبدأت أفكر في الدنيا وهوانها وسخافة الناس الذين يشغلون أنفسهم بالتافه من أمورها، ويتحاربون ويتشاجرون على الحقير من متعها، وهي عرضة في كل وقت للزوال، ولو عقلوا لما تخاصموا ولا تحاربوا وكانوا إخوانا متحابين متعاونين، يأخذون الأمور بهوادة وحكمة وحسن تقدير وتفكير في العواقب.

حاولت أن يكون ظلامي مضيئًا، فلئن حرمت النور من العينين فليستنر قلبي، ولئن حرمت نور البصر فلتضيء بصيرتي، ولكن كنت أنجح في هذا حينا وأخفق أحيانا

وأرهب ما يكون إذا تقدم الليل وانقطع الزوار وانصرف الأهل، ونام الناس، واعتراني القلق، وشعرت بالوحدة، واستولت علي الأفكار المظلمة، فاجتمع علي ظلام الليل وظلام النفس.

وأعزي النفس بأن حولي في الحجر المجاورة في المستشفى مرضى يتألمون ولا أتألم، ويستغيثون ولا أستغيث، وأن بهم جروحاً ولا جروح بي، ولكن سرعان ما تذهب هذه التعزية لأن الآلام متنوعة، وقد يكون ألم النفس أشد وقعا من ألم الجسم.

لم يكن لي من العزاء أحسن من الإيمان، فهو الركن الذي يستند إليه المرء في هذا الوقت الرهيب، ومن دونه يشعر كأن الهاوية تحت قدميه.

لو أدرك الناس هذا ما ألحدوا، فالإلحاد جفاف مؤلم، وفراغ مفزع، ومحاربة للطبيعة الإنسانية التي فطرت على الشعور بإله، والارتكان عليه والأمل فيه، وإلا كانت الحياة جافة فارغة مفزعة منافية للطبيعة.

وكان من المصادفة الحسنة أن حضر إلي أحد أبنائي الأوفياء وأحب أن يسليني بالقراءة لي بعض الوقت، فكان مما اختاره لي كتاب «اعترافات تولستوي» فوقع في نفسي موقعا جميلا، إذ رأيته يصور حياته وقد ركن أول الأمر إلى العقل وحده، وإلى العقل الواقعي لا غير، فأسلمه الاعتماد على المقدمات المنطقية المادية وحدها إلى الإلحاد، وعد الدين خرافة من الخرافات، ولكنه شعر بعد حين بأن الحياة لا قيمة لها وأنها فارغة من المعاني.

إن هذه الحياة المادية التي تركن إلى العقل الجاف وحده لا تستطيع أن تجيب عن الأسئلة الآتية: ما قيمة الحياة؟ ما الذي يربط بين الحياة المادية المحدودة وبين الأبدية؟ وما الذي يربط بين حياة الإنسان الجزئية والإنسانية الكلية؟ إلى مثل هذه الأسئلة فكان لا يجد في قضايا العقل وحدها جواباً، وساءت نفسه وأظلم تفكيره، وأدرك أن الحياة على هذا الوضع نكتة سخيفة، وأنها لا تستحق البقاء، وحاول الانتحار مرارا، وفي كل ذلك كان يهزأ بالدين، ولا يريد أن يتجه إلى التفكير فيه؛ وأخيراً بعد الشقاء الطويل والعذاب الأليم اتجه إلى الدين لينظر كيف يحل الجزئية بالكلية، والنفس الفردية بالإنسانية، فاطمأنت نفسه وانقلب متدينا.

فكان في هذا الكتاب عزاء لنفسي ومجال لبعض تفكيري، وقارنت بين موقف تولستوي وموقف الغزالي، فقد كنت قرأت له كتاب «المنقذ من الضلال»، وكان مما حكى عن نفسه أنه مر بمثل هذا الدور؛ شك في كل التقاليد الدينية، واستعرض المذاهب المختلفة في الدين، وأحب أن يركن إلى الفلسفة وحدها فلم تسعفه، وإلى تعاليم الباطنية فلم يطمئن إليها، واستولى عليه الشك حتى غمره، ووقع في أزمة نفسية حادة، واحتقر سخافات الناس في التخاصم على المال والجاه والمنصب فنفر من كل ذلك.

وأخيرا بعد أن استحكمت أزمته النفسية وأخذت منه كل مأخذ مرض مرضا شديدا، ولا أشك في أن مرضه الجسمي كان نتيجة لمرضه النفسي، ثم أفاق قليلا قليلا وإذا هو يخرج من هذه الأزمة كما خرج منها تولستوي متدينا بالقلب لا بالمنطق، وبالشعور النفسي الغريزي لا بالمقدمات الفلسفية، وإن كان الفرق بينهما أن تولستوي آمن بعد إلحاد والغزالي آمن إيمان كشف بعد إيمان تقليد بينهما فترة شك.

أحيانا أقول للنفس: ما هذا الجزع؟ وما أنت والعالم وما عينك في الدنيا؟ هلا قلت كما جاء في الحديث: (هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت).

إن الذي يوقعك في هذا التكفير المحزن هو انطواؤك على نفسك وتقويمك لها قيمة أكبر مما تستحق، وهل أنت إلا ذرة صغيرة على هذه الأرض ماضيها وحاضرها ومستقبلها؟ وهل الأرض كلها إلا هنة من هنات العالم، فلتتسع نفسك وليتسع تفكيرك ولتقدر نفسك قدرها ولتفكر في خارجك أكثر مما تفكر في داخلك؛ فإذا أنا استغرقت في مثل هذه التفكير هدأت واطمأننت

إنما هو شيء واحد كنت أستمتع به في الراديو وهو دلالته على الصباح في أول إذاعته وسماع القرآن يهدئ الأعصاب فيبعث الطمأنينة.

فأهوي على الطبيب أقبله، ثم لا ألبث أن أستصعب الأوامر الجديدة وافتتاح درس في الصبر جديد بعد طول الصبر القديم، فإلى الله أشكو وأضرع.

وأصبحت الدنيا أوهاما وتأثرات مفتعلة، وإذا دنيا الإنسان ليست إلا مجموعة أعصاب، إن سلمت وقويت ابتهج بالحياة ولم يتأثر بأحداثها، وإن تلفت تهدم كيانه وخار بنيانه.

وفي المستشفيات نقص لا يلفت إليه. فالأطباء يعنون بمقياس حرارة الجسم وتحليل ما يريدون منه، كما يعنون بنوع الغذاء الذي يلائم المريض أو لا يلائمه، ولكن يفوتهم شيء هام جدا ربما كان أهم من ذلك كله، وهو معالجة النفس.

ولكني أجد نفسي مستعصية على الشفاء، فهي متبرمة من كل شيء منقبضة أشد الانقباض، فأستدعي طبيب الجسم مرة ومرتين وثلاثا فيفحص ويطيل الفحص ثم يقول إن الجسم سليم. فضغط الدم جيد والصدر جيد والأعضاء كلها على أحسن حال. ولكن المسألة مسألة نفسك أنت وأنت القادر على مداواتها، غير أني لا أجدلها دواء

وثانيهما أن طبيب العيون لا يزال يمنعني من القراءة والكتابة وكانت حياتي كلها قراءة وكتابة، فلما حرمتهما أحاطني فراغ رهيب مخيف، والفراغ أدهى ما يمنى به الإنسان. فليس في الحياة سعادة إلا إذا ملئت بأي نوع من أنواع الامتلاء، جد أو هزل، وعمل أيا كان نوعه.

فإذا طال الفراغ فالوبال كل الوبال، إن فارغي العقل معذورون في أن يملئوا فراغهم بنرد وشطرنج أو أي حديث ولو كان تافها لأنهم يشعرون بثقل الفراغ، والحياة لا تلذ إلا بنسيانها، وخير لذة ما نسي الإنسان فيها نفسه واستغرق فيها حتى نسي التلذذ بها

وهذه الآلاف من الكتب آلاف من الأصدقاء، لكل صديق طعمه ولونه وطرافة حديثه، وقد كان كل يمدني بالحديث الذي يحسن حين أشير إليه، فاليوم أراهم ولا أسمع حديثهم، ويمدون إلي أيديهم ولا أستطيع أن أمد إليهم يدي.

وأهم ما لاحظته اختلال ما كان عندي من قيم لشئون الحياة، فأستعرض كثيرا مما كنت أقومه فلا أجد له قيمة، وتعرض علي متع الحياة المختلفة فلا أجد لها وزنا، وتعرض علي أخبار الناس يسلكون في الحياة سبلا مختلفة، فأهزأ بكل ذلك.

لقد أفادتني هذه التجربة المرة أن خير هبة يهبها الله للإنسان مزاج هادئ مطمئن، لا يعبأ كثيراً بالكوارث، ويتقبلها في ثبات ويخلد إلى أن الدنيا ألم وسرور، ووجدان وفقدان، وموت وحياة، فهو يتناولها كما هي على حقيقتها من غير جزع؛ ثم صبر جميل على الشدائد يستقبل به الأحداث في جأش ثابت، فمن وهب هاتين الهبتين فقد منح أكبر أسباب السعادة.

من أجل ذلك ضعفت قدرتي على القراءة والكتابة مع الرغبة الشديدة فيهما، واضطررت أن أستعين بعض الوقت بمن يقرأ لي ويكتب، وقد اعتدت الإملاء بعض الشيء ولم أكن أحسنه أول الأمر، لأني طول حياتي العلمية كنت لا أعتمد إلا على نفسي فيهما

الفصل السادس والثلاثون

وعلى كل حال فقد استفدت من هذا المرض تجارب كثيرة إذ علمت أن حركة اليد والرجل عبارة عن عملية ميكانيكية مركبة لا يمكن أن تحسن إلا بسلامة أعضاء كثيرة، ولم أكن أستطيع إمساك علبة السجاير ولا علبة الكبريت ولا أن أشعل عودا من الكبريت وهكذا.

الفصل السابع والثلاثون

هذه أهم الأحداث التي مرت علي من صباي إلى شيخوختي فأثرت في تأثير دائبا متواصلا حتى صيرتني كما أنا اليوم، وكان يمكن أن تكون غير ذلك فأكون غير ذلك، ولكن شاء الله أن تجري علي كما جرت فتصوغ مني ما صاغت.

لقد كتبت مرة مقالا في وصف صديق وكنت أستملي وصف هذا الصديق من نفسي، إذ عنيت به شخصي، وقد جاء فيه

إن طاف طائف الإلحاد بفكره لم تطاوعه طبيعته، وإن شك حينا عقله آمن دائما قلبه، ومن أصدقائه السكير والزاهد، والفاجر والعابد، وكلهم على اختلاف مذاهبهم؛ يصفه بأنه يجيد الإصغاء كما يجيد الكلام.

ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لرفضت كل هذه الأمور ونحوها وفرغت لإتمام سلسلة فجر الإسلام وضحاه وظهره وعصره، فقد كان ذلك أجدى وأنفع وأخلد، ولكن للظروف أحكام.

وإذا حدث حادث سياسي أو اجتماعي — قومي أو إنساني — تأثرت به تأثرا يغطي على تفكيري العلمي، وها أنا ذا في هذه الأيام مرتاع لما أصاب البلاد العربية من أحداث فلسطين. يقلقني جد الصهيونيين وهزل العرب، واجتماع كلمة الأولين وتفرق الآخرين ووقوف الأولين على أساليب السياسة الأوروبية والأمريكية والروسية، وفهمهم الدقيق للأوضاع واستغلالهم الفرص السانحة، وجري الآخرين على سياسة الارتجال، وجهلهم بما يجري خلف الستار. وتقصيرهم في جمع كلمتهم وتوحيد خططهم

ويفزعني ما أحرزه الصهيونيون من نجاح لم يكن يتوقعه حتى أكثرهم تفاؤلا وأوسعهم أملا، وأكرر السؤال على نفسي ماذا سيكون المصير لو استمر الصهيونيون في جدهم واستعدادهم وتكاتفهم، واستمر العرب في هزلهم وتخاذلهم؟

وكثيرا ما أحاول الكتابة في موضوع علمي أو أدبي ثم أصرف عنه بهذا الحزن وهذا الجزع، وأقول إني كنت أعجب من ضياع الأندلس من يد المسلمين وسائر الأقطار لا تحرك ساكنا للإغاثة ولا تمد يدا للمعونة، واليوم بعد قرون طويلة تتجدد المأساة فتضيع فلسطين من يد المسلمين ولا عبرة من الأحداث ولا استفادة من التاريخ، ويغيث المسلمون شكل إغاثة لا حقيقة إغاثة، ويعاونون معاونة كان خيرا منها عدمها، فيا لله للمسلمين

ثم لي نزعة صوفية غامضة، فأشعر في بعض اللحظات بعاطفة دينية تملأ نفسي ويهتز لها قلبي، وأكبر ما يتجلى هذا عند شهود المناظر الطبيعية الرائعة، كالمزارع الواسعة، والأشجار اليانعة، والنجوم اللامعة، وطلوع الشمس وغروبها، والبحار وأمواجها، والطيور وتغريدها، فأشعر — إذا ذاك — بميل إلى احتضانها، وأود لو ركزت في كأس فأشربها، وأحس بنشوة إذ أراها وأرى الله فيها، ولكني — مع ذلك — أشعر بأسف على أني لم أنم هذه النزعة كما يجب، ولم أتعهدها وأرعها كما كان ينبغي.

ومع هذا فإني أحمد الله إذ من علي بالتوفيق في أكثر ما زاولت من أعمال: فيما ألفت من كتب — في عملي بلجنة التأليف — في الجامعة الشعبية — في الجامعة المصرية — في الجامعة العربية — في عمادة كلية الآداب؛ كذلك كان الشأن في حياتي العملية والأدبية والمالية والعائلية: نعم من الله لا أستطيع أن أقوم بالشكر عليها.

وهي ظاهرة يصعب تعليلها العقلي، أو تفسيرها بالتحليل الاجتماعي والنفسي. فكم رأيت من أناس كانوا أذكى مني وأمتن خلقا وأقوى عزيمة، وكانت كل الدلائل تدل على أنهم سينجحون في أعمالهم إذا مارسوها، ثم باءوا بالخيبة ومنوا بالإخفاق، ولا تعليل لها إلا أن ذلِك فَضلُ اللهِ يؤْتِيهِ من يشَاء واللهُ ُذو اْلَفضلِ اْلعظِيمِ.

الحمد لله رب العالمين

خُلاصة كتاب: حياتي، تأليف: أحمد أمين (2025)
Top Articles
Latest Posts
Recommended Articles
Article information

Author: Arielle Torp

Last Updated:

Views: 5798

Rating: 4 / 5 (61 voted)

Reviews: 84% of readers found this page helpful

Author information

Name: Arielle Torp

Birthday: 1997-09-20

Address: 87313 Erdman Vista, North Dustinborough, WA 37563

Phone: +97216742823598

Job: Central Technology Officer

Hobby: Taekwondo, Macrame, Foreign language learning, Kite flying, Cooking, Skiing, Computer programming

Introduction: My name is Arielle Torp, I am a comfortable, kind, zealous, lovely, jolly, colorful, adventurous person who loves writing and wants to share my knowledge and understanding with you.